إضاءة الأحد 17 نوفمبر
بين الخرطوم وبيروت وبغداد
* ليس من باب التفاخر أو (الفشخرة)، لكن حكما فإن تأثير النموذج الثوري أو النهضوي في الفضاءات الجغرافية وحركة الشعوب السياسية، موجود ومراقب ومرصود عبر التاريخ القديم والحديث في كل الأحوال .
* فحركة الاستقلال الوطني السوداني وجدت، لأول عهدها، نموذجا ملهما في الحركة الوطنية الهندية، برغم بعد الشقة وتطاول المسافات .. ربما ما جمع بينهما فقط هو الاستعمار البريطاني العدو الواحد المشترك، بالأضافة لوجود جالية هندية تجارية مقدرة على هامش المجتمع، بين جاليات أخرى كثيرة.. يونان وطليان وسوريين ويهود وغيرهم.. فاتخذت جماعة الخريجين من اسم (المؤتمر) الذي أسسه غاندي و نهرو عنوانا لحركتها.
* لا زلت أذكر ونحن صغار، كيف كانت تترامى الى أسماعنا- دون أن نسأل أو نفهم- أغاني البنات في الحفلات والسيرات وهن ينشدن : (الله لي كوريا.. يا شباب كوريا).. كما أطلق اسم تلك الجزيرة الأقصى-آسيوية على العديد من حواري العاصمة والأقاليم.. لنعرف، لاحقا، أن ذلك لم يكن إلا تعاطفا وتضامنا من شعبنا، المتطلع للتحرر و الاستقلال، مع شعب يقاتل بالظفر والناب وسهام البامبو السامة، أكبر قوى الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.. عندما لم تكن وسائل التواصل والاتصال تتجاوز الراديو والسينما و التلغراف والبريد.. تعاطف امتد إلى فيتنام وكوبا والكونغو وكل دول و شعوب عدم الانحياز في عالمنا الثالث.. التي وجدت نفسها في مواجهات ساخنة - دامية مع الاستعمار الجديد.. الساعي لوراثة تركة حليفه الأوروبي القديم الآخذ بالتراجع بعيد الحرب الكونية الثانية.
* الشعب السوداني ذو التاريخ المجيد في مواجهة الغزوات الأستعمارية، منذ الثورة المهدية، كأول حركة تحرر منتصرة في القارة،
ووجه بعد نيله الاستقلال عبر الكفاح السلمي الديمقراطي - للأسف - بمتوالية شريرة تراوحت بين الاضطراب الدستوري-الديمقراطي و الانقلابات العسكرية الشمولية القابضة..كان آخرها (الانقلاب العسكري-الإخواني) ، الذي اتخذ زورا وبهتانا من (الانقاذ) عنوانا لعهد متطاول من (الغرق) في لجج الفقر و الفساد و التعذيب المنهجي و والقتل والإبادات الجماعية.. و لأنه شعب يرفض الخنوع و الاستسلام خرج في ثورة سلمية كاملة الدسم أطاحت رأس النظام ودفعت (لجنته الأمنية) لعصيان أمر رئيسها بالإبادة.. فحققت ثورة ديسمبر بذلك نموذجا فريدا، جابت أصداؤه- عبر الميديا- كل أرجاء المعمورة فتعاطف معها العالم والأقليم، لتنتقل من ثم لإنجاز الدولة (الانتقالية المدنية) ، بشراكة مع العسكريين مؤسسة على وثيقة دستورية حاكمة.. برغم العثرات والتحديات المعروفة التي لا تزال تعتور المسار.
* كان أول رجع صدى لثورة ديسمبر العظيمة قد سمعناه وشاهدناه في الجزائر، التي انتفض شعبها ضد تجديد العهدة (الدورة الرئاسية) الخامسة لبوتفليقة، و ضد النخبة السياسية الحاكمة و الفاسدة التي نهبت الدولة البترولية- الزراعة الغنية، وأفقرت الشعب و سلبته الحرية والعيش الكريم.. لكن الحراك الجزائري ما زال يكافح من أجل (فترة انتقالية) كنموذجنا، رفضت المؤسسة العسكرية اتاحتها وتمسكت بالنظم الدستورية العتيقة، و بانتخاب رئيس جديد، تحت ذرائع غامضة أبرزها خطر الانزلاق إلى الفوضى.
* أما في لبنان والعراق، و برغم النظامين الدستوريين القائمين.. فقد اكتشف الشعبان، وبعد طول معاناة مع أدواء الطائفية إنه لا سبيل للتخلص من فساد وهيمنة الطبقة الحاكمة إلا بثورة شعبية سلمية، تستعيد القرار الوطني المختطف وتتجاوز التركيبة الطائفية المتسترة بالديمقراطية الزائفة، خصوصا حزب الله ذو الولاء الأول والأخير لدولة الفقيه الإيرانية، ذات الأذرع الأخطبوطية الممتدة والمشاغبة في كل مكان من الخريطة العربية.
* المشكلة المستعصية التي تواجه حراك بيروت وبغداد، خلافا للخرطوم، هي أن الطائفية في البلدين (حالة اجتماعية) متجذرة عبر العصور، من الصعب اقتلاع عروقها الممتدة في تربة المجتمع ضربة لازب.. وستبقى أي إصلاحات على الأغلب مجرد (تحسينات) سطحية لن تنفذ إلى العمق.