إضاءة الخميس 5 ديسمبر
يوميات غردون تحت الحصار (4-4)
* بالرغم من عدم رغبة غردون المعلنة بالعمل في كل من مصر والسودان.. وبينما كان في تطوافه المتواصل حول العالم، من الهند إلى الصين و من موريشيص إلى فلسطين خلال السنوات الثلاثة بين ١٨٨٠ و ١٨٨٣.. وقعت سلسلة من الأحداث قادت غردون إلى الخرطوم في مهمته الأخيرة و المصيرية .
* من تلك الأحداث التطورات التي شهدتها مصر بسبب ديون قناة السويس، و اضطرار بريطانيا للتدخل من أجل مصالحها ومصالح الدائنين الأوربيين لإنشاء القناة.. هو تدخل كان بمثابة إنزلاق قسري، خطوة إثر أخرى، تحول مع الوقت إلى التزام ومسؤولية، لطالما حاولت لندن تفاديها دون جدوى.. أولاً عبر إشراك فرنسا في مسؤولية السيطرة على الاقتصاد و الخزانة المصرية، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى وجدت بريطانيا نفسها، خلافاً لتقديراتها الذاتية، في حالة احتلال فعلي للقطر المصري وكل شؤونه الداخلية والخارجية.
* بمرور عامين من ذلك الوقت، أي مع اقتراب ثمانينيات القرن التاسع عشر، إنهارت عمليا ماكينة الإدارة المصرية، كما انفرط عقد جيشها بتمرد عرابي أو ثورته العسكرية، في وقت كان السودان يشهد فيه اشتعال الثورة الشعبية المهدية، الأمر الذي حفز لندن مرة أخرى - على خلاف رغبتها أيضا- أن تطلب من الخديوي توفيق سحب جيشه من السودان، وإرسال غردون إلى السودان مدداً لتنفيذ (سياسية الإخلاء).
* المهم أنه بعد تردد، و أخذ ورد في جانبي الحكومة البريطانية و المصرية و من قبل غردون نفسه، الذي كان حينها يفضل الالتحاق بخدمة ملك بلجيكا، المالك الشخصي للكونغو في ذلك الوقت، و بعد ضغوط مهولة من الرأي العام والصحافة البريطانية اضطرت الحكومة البريطانية لاتخاذ قرار بالتدخل من أجل الإخلاء.. خصوصا بعد ذلك اللقاء الذي أجرته صحيفة (بول مول غازيت) مع الجنرال لأخذ رأيه حول الثورة السودانية، وبرغم محاوله الاعتذار عن الحديث، لكنه تحت إلحاح رئيس التحرير (دبليو تي ستيد) وافق على الحوار.. وأبلغ ستيد إنه استجاب لدعوة ملك بلجيكا ليوبولد للذهاب إلى الكونغو، وإنه ليس لديه الوقت ولا الرغبة في التفكير للذهاب إلى السودان.. لكن ستيد لم يكن من النوع الذي يمكن إقناعه بسهولة، إذ أبلغ غردون أن حكومة غلادستون تلح على القاهرة لإخلاء السودان بالكامل.. كان ذلك الخبر صادماً لغردون، ليعلن لستيد محتجاً، إن ذلك الإخلاء غير ممكن من الناحية العملية.. وإن عليك الاختيار بين إثنين: إما الاستسلام للمهدي أو الدفاع عن الخرطوم في وجه كل المخاطر!
* وفي اليوم التالي نشرت البول مول حديثه بالكامل على (صفحة ونصف الصفحة) وكتبت افتتاحيتها تحت عنوان: (غردون الصيني إلى السودان).. كانت تلك هي الدوامة أو (الدايلما) التي وجد غردون نفسه متورطاً فيها، بعد أن اقتنع تحت الضغط بضرورة ذهابه إلى السودان، وفي نفسه شيء، بل أشياء من حتى تجاه (سياسة الإخلاء).. كان الرجل لأسباب دينية معلنة، أو لأخرى نفسية غير مفهومة يسعى إلى حتفه بظلفه، أو ما كان يدعوه (استشهاداً) أو ما يسميه الانجليز (مارتيردوم).
* نعود في ختام هذه المقدمة لكتاب (يوميات الجنرال غردون.. خلال حصار الخرطوم) لنؤكد على قيمة الخدمة التي قدمها الأستاذ فيصل محمد أحمد لقراء العربية بترجمته لهذه الوثيقة التاريخية المهمة ، وجعلها بذلك في متناول الباحثين والطلاب وكل المهتمين بعلوم التاريخ.. إنها خدمة تستحق الشكر و الثناء.
الرئيسية
