القاهرة: مصطفى نصر
عندما وصلت إلى القاهرة في ٦ يناير ٢٠٢٠ صافح أنظاري خبر مقتضب بصحيفة أخبار اليوم عن أن د. نوال السعداوي ترقد في بيتها عاجزة عن الحركة بسبب كسر في ساقها.. بصراحة إن كلمات مثل: (ترقد، عاجزة، كسر) لا تتناسب في مخيلتي ولا تقترن مع ذكر اسم السعداوي، فقررت أن أسجل لها زيارة مواساة لشقتها بالطابق الـ26 من عمارة سامقة بشارع كورنيش النيل في القاهرة.. في هذه السطور يجد القاريء بعض نبض هذه الزيارة.
القاهرة: مصطفى نصر
أربعة عقود أو ربما تزيد قليلاً فصلت بين زيارتي الأولى لنوال بمقر جمعيتها: (تضامن المرأة العربية) الكائنة بشارع ضريح سعد بقصر العيني، وأنا طالب غض الشباب أدرج في سنوات دراستي الجامعية بالأزهر الشريف، حيث ذهبت لأرى وأسمع وجهاً لوجه محاضرة لأفكارها الجريئة التي قرأتها لها عبر كتابيها
مذكرات طبيبة) و(مذكراتي في سجن النساء).. وهي في ريعان نضجها في عقدها الرابع، وهي تضج بالقوة والنضارة والجرأة والعناد في طرح مشروعها الفكري حول المرأة وحقوقها.. وهذه الزيارة الأخيرة التي سجلتها لمنزلها يوم الخميس الماضي، والتي كان عنوانها الوحيد الواضح هو أن د. نوال هي قوة لم يؤثر فيها إلا مر السنين.
لم تكن الزيارة مجرد رحلة عابرة لمواساتها، بل كانت أشبه برحلة حياة طويلة ترصد وتقارن بين د. نوال في عقدها الرابع، وهي تكتب وتحاضر وتغشى المنتديات للحديث حول معالم مشروعها الفكري لحقوق المرأة، لم يوقف جهودها كل ما حل بها من سجن وتكفير وشتائم وسباب واتهامات بالفسق والانحلال والفجور، ورسائل تهديد بالقتل كهدف ثالت بعد فرج فودة ونجيب محفوظ، وهي مصرة على مشروعها وواثقة به، طالبة مناظرة على الهواء مباشرة مع شيخ الأزهر، في عزيمة لا تعرف الملل في فض كل أختام الشمع الأحمر التي تغلف ملفات كل المسكوت عنه في العلاقة بين الذكر والأنثى، وحتى عندما سجنوها حولت السجن إلى أفكار مسطورة على أوراق ومنشورات وكتب قفزت بها فوق أسوار السجن العالية والمنيعة، وكلما زادت عليها الأغلال والقيود والدوائر الخانقة لم تجد معها شيئاً، وبين اليوم وهي تزحف نحو عامها الـ90 وهي ضعيفة وواهنة، كانت أحياناً ترتد في حديثها معي لسابق عهدها بعبارات قوية وواثقة وهي تكرر أنها في غاية الامتنان لزيارتي لها من أعماق جنوب الوادي، لكنها سرعان ما تذوب القوة أمام وهن السنين.
كررت لي نوال أكثر من مرة عن امتنانها لكنداكات السودان، وقالت لي إن بسالتهن بعثت فيها القوة وهي في شيخوختها ومرضها.. ولم تجد بداً في نهاية زيارتي لها من أن تهديني أحد أحدث كتبها (الرواية) طلبت منها كتابة إهداء على النسخة، فقالت بصوت واهن مذبوح كطفلة عاجزة: ( مش قادرة اكتب) قلت لها: (هذه الكلمة لا تليق بك)، وهكذا بعد أن أفلحت في استفزازها أمسكت القلم بيد مرتعشه لتضع توقيعها على النسخة، وعندما هممت بمغادرة شقتها ألحت عليَّ بأن أبقى، لكنها أمام إصراري على المغادرة، قالت لي أحملك رسالة هامة لقرائي في الخرطوم: (لا تنسوا نوال السعداوي، أطلقوا دعوة للوقوف بجانبي في هذه الظروف الصعبة).. فهل وصلت الرسالة لكم يا شعب السودان؟