مقال نقدي
الجمل والتراكيب في التجربة الأدبية «2»
بقلم: مصطفى نصر
ما زلنا في إطار الكشف عن أسرار الإبداع في بناء الجمل في النص الأدبي، حيث كشفنا في المقال السابق عن الفرق بين الجملة الإسمية والفعلية في التعبير؛ وكشفنا عن قيمة الأفعال في بث الحركة في النص مقارنة بالإسم، يلخص كل ما قلناه في المقال السابق أن جملة: "يتجدد كموج البحر" أكثر ديناميكية وحركة وتجدد من قولنا: "كموج البحر يتجدد"، لأن الاستهلال بالجملة الاسمية يدل على ثبات المعنى، إلا إذا اقتضت ضرورة بلاغية في بنية النص بأن يكون شبه الجملة هو "المقدم" للتأكيد أو للحصر بحسب ما سنتناول في أسلوب القصر فيما يلي من مقالات إن شاء الله.
نتحدث اليوم عن الجملة الخبرية والإنشائية، ونقصد بالجمل الخبرية تلك الجمل التي تخلو من أساليب الإنشاء الطلبي: ويشمل الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني، والإنشاء غير الطلبي: كصيغ المدح والذم والتعجب والرجاء والقسم.
فالجمل الخبرية فعالة جدًا في السرد والوصف، وهي على ثلاثة أضرب: برزت قبل تبلور البلاغة كعلم مستقل، عندما سأل رجل عالم اللغة المبرد قائلا: "إني أرى في كلام العرب حشوا، يقولون عبد الله قائم، وإنَّ عبد الله قائم، وإنَّ عبد الله لقائم، والمعنى واحد."
فأوضح له المبرد أن كل جملة من الجمل الثلاث لها سياق مختلف عن الآخر، فجملة "عبد الله قائم" الخالية من أي مؤكد تسمى جملة ابتدائية تقال للشخص الخالي الذهن من الخبر، ونلقيه له لأول مرة، فإن تردد وتشكك نلقي له الخبر بمؤكد واحد هو "إنَّ" ويسمى الخبر طلبيا، فإن أنكر الخبر جملة وتفصيلًا زدنا له مؤكد آخر أو اثنين أو ثلاثة بحسب درجة إنكاره، لذا هنا جاء التوكيد بـ"إنَّ" واللام الزائدة، لأن درجة إنكاره فيما يبدو لم تكن كبيرة، ففي حالة الإنكار الأكبر يمكن أن نضيف له مؤكدات أخرى مثل القسم وقد والحروف الزائدة للتوكيد.
وقد وردت مجتمعة في سورة يس: "اضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ {13} إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ {14} قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ {15} قالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ {16}"
نلاحظ في الآية أنه بعد إرسال ثلاث رسل دفعة واحدة، كان التردد هو سيد الموقف "قالوا إنا إليكم مرسلون" أطلقوا لهم خبرا طلبيا مؤكدا بمؤكد واحد "إن"، ثم إنهم بعد أن وجدوا منهم إنكارا تاما "قالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لمرسلون" أرسلوا إليهم خبرًا إنكاريا فيه ثلاث مؤكدات؛ هي القسم بـ"ربنا" و"إنَّ" واللام الزائدة في "لمرسلون".
فأمام منشىء النص ثلاثة أضرب للخبر ينوع خطابه باستخدامها، فإن كان حديثه يدور حول مسلمات وبديهيات لا تستدعي التوكيد أحجم عن الإسراف في أدوات التوكيد، وإن وجد في حديثه ما قد يثير شكوكا لدى المتلقي أضاف إليه مؤكدًا واحدًا، وإن احسَّ بأنَّ ما سيقوله يصعب تصديقه من المتلقي زاد في المؤكدات بحسب حالة الإنكار المتوقعة من المتلقي.
وللإنشاء صور كثيرة سردناها في أول هذا المقال، سواءً أكان الإنشاء طلبيًا أو غير طلبي، سنكتفي منها في هذا المقال بالاستفهام والأمر والنهي لضيق مساحة القول.
وأجمل صور الاستفهام هي التي خرجت بالاستفهام من معناه الحقيقي وهو "طلب العلم بالشيء" إلى معنًى آخر بلاغي:
منها الاستبطاء، وذلك كما في قوله تعالى: { حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ } "البقرة 214".
ومنها الاستفهام التعجبي، وذلك كما في قوله تعالى: { مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ } "النمل 20".
ومنها الوعيد، وذلك كما في قوله تعالى: { أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِين) "16 المرسلات".
ومنها الأمر، وذلك كما في قوله تعالى: { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } "14 هود".
ومنها التقرير، وذلك كما في قوله تعالى : { أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ } "62 الأنبياء".
ومنها التكذيب، وذلك كما في قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا } "40 الإسراء".
ومنها الإنكار: وذلك كما في قوله تعالى: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } "35 الأحقاف".
ومنها التوبيخ، وذلك كما في قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمري}.
ومنها العتاب، وذلك كما في قوله تعالى :{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } "16 الحديد".
ومنها التذكير : وذلك كما في قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تعبدوا الشيطان} "60 يس"
كما توجد صيغ بلاغية أخرى كثيرة للاستفهام سنمسك عن ذكرها
وقد استفاد الشاعر "إيليا أبو ماضي" أن يوازن بين الجمل الخبرية والجمل الاستفهامية بصورة رائعة في قصيدته "لست أدري":
لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي ؟
لست أدري!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حر طليق أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري ولكن..
لست أدري!
وهو هنا استخدم الجمل الفعلية أكثر من الجمل الإسمية، فهذا من شأنه أن يشير إلى قوة تفاعل الحدث في داخله من جهة، ومن جهة أخرى إلى حالة عدم الثبات اليقيني عند الشاعر وهو يواجه سؤال الهوية الذي هو من أعقد الأسئلة، لذا تأتي إجابته دائما حائرة "لست أدري" لذا أطلق على قصيدته "الطلاسم" لأنها فتحت مجموعة من الأسئلة بلا إجابة.
نعود..
تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق ريمونارف الأدبي