مقال نقدي
الصور والأخيلة في التجربة الأدبية (٤)
بقلم: مصطفى نصر
نتحدث اليوم في هذا المقال الرابع حول الصور والأخيلة في التجربة الأدبية عن أنواع الصور، حيث تنقسم الصور الفنية لثلاثة أنواع: هي الصورة المفردة والصورة المركبة والصورة الكلية،:
الصورة الشعريّة المفردة: يكتفي فيها الشاعر بتصوير التشابه الظاهر والحقيقي بين الأشياء، ولا يستخدم المعنى النفسي، امَّا الصورة الشعريّة المركبة: فيجمع فيها الشاعر بين ما تراه عينه، وما تشعر به نفسه وعاطفته، وفي الصورة الشعريّة الكليّة: تكتمل في الصورة المعاني التجسيديّة، والنفسيّة، والتعبيريّة لكشف أبعاد التجربة كاملة.
نتوقف اليوم عند الصورة المفردة،وأشهر الصور الفنية في العصور الاولى للشعر العربي في عصري الجاهلية وصدر الإسلام كانت من الصور المفردة
وننوه إلى أن الشعر القديم لم يعرف سوى نسق الصورة المفردة وخلت العصور القديمة من الصور الكلية التي ترسم صورة كاملة للمشهد، اذ لم يكن الشاعر في الجاهلي إلا ابن بيئته، فهو مثلا لا يرى في الواقع وهو في رحلته في صحراء بلقع غير الرمال الممتدة أمامه تملأ الافق، ليشكل صورا ممتدة تشكل نسقا متصلا، لذا تأتي صوره متباعدة تبعا لهذه البيئة الصحراوية التي تتباعد فيها الصور، فلا تجد إلا شجرة هنا تليها شجرة هناك بعد ساعات من السير، وريما شاردا هنا تليه ظبية جميلة بعد ردح من الزمان.
ورغم أن الصور مفردة في مجملها، فقد اهتم صاحب أول شعر عربي مكتوب أتانا من الجاهلية، أمرؤ القيس بن حجر اهتماما كبيرا بتصوير الحركة في الموجودات الطبيعية والبيئية.
وقد بدت الصورة الحركية واضحة عنده في لوحات الافتتاح ومقاطع الرحلة ، ففي لوحة الطلل صوًر حركة الرياح والمطر المتعاقبين اللذين يغيران من الطلل وآثاره ، فضلا عن عنايته بتصوير الحيوانات وأطفالها في الطلل البالي لاطمئنانها فيه بسبب خلوه من الناس .
فهو وقف على الأطلال واستوقف، وبكى واستبكى، بكلمتين
«قفا نبكِ!» من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ويعدون١ ابتداءه هذه أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل، في مصراع واحد، ولا يقل عنه في الجودة قوله أيضًا:
قفا نبك! من ذكرى حبيب وعرفان وربعٍ خَلَت آياته منذ أزمانِ!
وأول من شبه النساء بالمها، كقوله:
تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتقي بناظرة من وحش وَجْرَةَ مطفل
وبالظباء، كقوله:
وجيد كجيد الرِّيم ليس بفاحش إذا هي نصَّته ولا بمعطَّلِ
والبيض، في قوله:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجلِ
وشبهها بالدر، على قول، في قوله:
كبِكْر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحللِ
وفي لوحة الظعن صوًر الشاعر حركة الظعن وتمايله ، وحركة الهوادج، وهي حركة طبيعية لم يبتدعها الشاعر أو يبالغ فيها .. أما في لوحة الغزل فقد عني بتصوير حركات المرأة من التفات استدعى انتشار رائحة عطرها وحركات الغنج والدلال لديها، وقد أضافت هذه الحركـات صفـات جماليــة أخرى إلى صورة المرأة. خاصة في تصنعه لألفاظ المؤنث،
تقولُ وقد مالَ الغَبيطُ بنا معاً
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقُلتُ لها سيري وأرْخي زِمامَهُ
ولا تُبعديني من جناك المعللِ
ورصد الشاعر في لوحة المطر حركات سقوط المطر وشدة هطولـه أو ضعفه، سواء أكــان سيلا أم مطرا لينا
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فِيها وَطَفٌ
طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرْ
تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ
وَتُوارِيهِ إذا ما تستنكر
وصوًر الشاعر حركة الدمــع النازل من العين إلى الخد بسرعــة أو بشدة ، أو بشكل متناثــر متفرق، وهذه كلها حركات أسهمت في رسم صورة للدمع من حيث شدته واستمراره أو قلته
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
بسهميك في أعشار قلب مقتَّلِ
فمثَّلَ عينيها بسهمي الميسر؛ يعني المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء؛ فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثَّل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل. وبدت صورة الليل التي تعد من الصور النادرة في الشعر العربي قائمة برمتها على الحركة المتتابعة عن طريق تتابع الأفعال في شعر امرئ القيس؛ كقول
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطَّى بصلبه وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبْحٍ؛ وما الإصباح منك بأمثل
وهو ايضا من اوائل من اجادوا في وصف الدابة
وقد أغتدى والطير في وكناتها بمنجردٍ٤ قيد الأوابد هيكل
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ
له أيطَلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ وإخاءٌ سرحانٍ وتقريب تَتْفل
. وشكلت الصورة الحركية محور مقطع الرحلة سواء أكانت على ناقـــة أم على فرس ، لأن الحركة أساس الرحلة، وتفنن الشاعر في رصد هذه الحركة وتصويرها فهي بطيئــة ومرة، خفيفة أخرى، متقاربة ثالثة، والحيوان ينثر الحصى لشدة حركة قوائمه وسرعته في السير وبذلك اختلفت الحركة في ديوان الشاعر بحسب الموضوع المتناول ، والصورة التي قــدًم بها الشاعر هذه الحركة ، ولا شك انه كان موفقا مبدعا في تقديمها .