مقال نقدي
التراكيب والجمل في التجربة الأدبية (١)
بقلم: مصطفى نصر
تحدثنا من قبل عند تناولنا للألفاظ كلبنة أساسية لبناء النص عن أربعة مبادئ أساسية لاختيار الألفاظ في التجربة الأدبية هي:
١/ للشاعر أو الأديب هدف واحد لا غير هو وصول نصه من وجدانه لوجدان المتلقي مباشرة دون أي وسيط، ليحدث ارتجاجًا في قراءاته المعتادة، فيظل يردد النص مرة مرتين خمس إلى عشر مرات، ليلتصق بذاكرته القريبة والبعيدة، فيبقى بذلك النص فترة متطاولة من الزمان.
فإذا نسي الشاعر في أي لحظة الطرف الآخر وهو المتلقي، سيكون النص فقد شرط التواصل الخلاق بين المرسل والمستقبل، وتشوشت بذلك كل ميكانيزمات التواصل الفعال، وقيد النص ضد مجهول.. فغاية الشاعر أو الأديب هو الذكاء اللغوي الذي يمكنه من الخروج عن المألوف وكسر أطر النمطية، ليجد القبول عند المتلقي.
٢/ ارتباط كل لفظ في التجربة الأدبية أما بكشف جانب فكري أو جانب وجداني في النص، وأي لفظ لا يحقق ذلك يعد حشوًا يجب على الأديب أو الشاعر بتره نهائيا، في مرحلة تصفية فضول الكلام، بحذف أي لفظ لا يؤدي زواله لحدوث خلل في الكلام، ماعدا استثناءات محددة تم إعطاؤها للشاعر لإقامة الوزن أو القافية، ولا استثناء مطلقا للناثر لأن السجع إن لم يأت عفو الخاطر وبدون قصد سيكون حشوا لا قيمة له .
٣/ الصورة الأدبية يجب أن تكون منشأة بألفاظ جديدة فيها طرافة، فهي أداة الشاعر للتصوير والتخييل. وتبنى الصورة الشعرية بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد، لإبراز المعنوي في صورة محسوسة، حسب ما سنفصل عند حديثنا عن الصورة المفردة والمركبة.
لكن الصور يجب أن ترتبط بدور ووظيفة وجدانية او فكرية في النص وأي صورة او محسن بديعي مستجلب بصورة مفتعلة افتعالا لاقيمة له، إذ أن الصور والمحسنات البديعية بدون وظيفة هي تماما مثل الضحك بلا عجب
٤/إن الألفاظ يجب أن تكون مناسبة للغرض الشعري: فقاموس الشعر الغزلي غير قاموس الحماسة، فكما أن للتهنئة عباراتها وللعزاء عباراته فلا يجوز أن تقول (مبروك) لصاحب العزاء، ولا (البقية في حياتك) في بيت العرس، كذلك أوضحنا من قبل أن قول أبي تمام (ملطومة بالورد) جاء نافرا وغير مناسب لأجواء الغزل، حتى إذا كان لطما بالورد، رغم أنه ملائم جدا لديوان الحماسة ووصف المعارك.
ننتقل اليوم إلى اللفظ عندما يركب فيما بعد في جملة، وهنا في هذا المقال وعدد من المقالات بعده سنقدم لمحة عن أسرار تأليف الجمل والتراكيب في النص الأدبي، حيث يجب في هذه المرحلة أن يراعي الأديب نوع الجملة المناسبة للسياق، جملة فعلية أم اسمية، كما يجب أن يراعي نوع الجملة من حيث الخبر والإنشاء، والتقديم والتأخير، والإطناب والإيجاز والمساواة، والفصل والوصل، والقصر، وسنتناول بالتفصيل والأمثلة مزايا كل جملة من هذه الجمل، في عدة مقالات قادمة بحول الله وتوفيقه على أن نخصص هذا المقال للجملة الفعلية والاسمية .
فمن حيث فعلية أو إسمية الجملة يجب أن تكون الجملة مناسبة للمكان، فالجمل الفعلية تستخدم في الأماكن التي تضج بالحركة، بينما الجمل الاسمية تصلح للسكون، والثبات، وأوضحنا في المقال السابق أن الشباب من أهل الكهف جاءت صورتهم ضاجة بحركية الجمل الفعلية (تزاور - تشرق - تغرب- نقلبهم ….) لأن طبيعة الجلد البشري يحتاج إلى تحرك من جهة إلى أخرى وتغير في درجات الحرارة وتقلب في وجهة تيار الهواء، حتى يقاوم جسد الإنسان البكتريا المسببة لتقرحات الجسد.
بينما استخدم مع الكلب اسما وهو (باسط) الذي يدل على الثبات، لأن الطب الحديث أثبت بعد دخولنا في الألفية الثالثة ان الكلب ليس في حاجة للتقلب لأن جلده يفرز أنزيمًا مثبطا لبكتريا تقرحات الجسد، وهو ما سبق إليه القرآن قبل أربعمائة وألف سنة، باستخدام الفعل في موضعه المناسب، والاسم في موضعه المناسب.
ولقد وظف عنترة العبسي الجملة الفعلية توظيفا رائعا لوصف مايضج به المكان في ساحة المعركة في قوله:
لما رأيتُ القومَ أقبلَ جمعهُم يتذامرون كَرَرْتُ غَيْرَ مذَمّم
يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّماحُ كَأَنَّها أشْطَانُ بِئْرٍ في لَبانِ الأَدْهَمِ
مازِلْتُ أَرْمِيهِمْ بِثُغْرَةِ نَحْرِه ولبانه حَتَّى تَسَرْبَلَ بِالدَّمِ
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلِبانِه وشكا إِلَىَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
لَو كانَ يَدْرِي مَا المُحاوَرَةُ اشْتَكَى ولكان لَو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِي
في هذا المقطع تبدت لنا الجمل الفعلية (رأيت- أقبل - يتذامرون - كررت يدعون - أرميهم - إزورَّ - تسربل - شكا …..) ودورها الواضح في نقل المكان وهو ساحة المعركة بصورة تضج بالحركة، وينتقل المتلقي مع الشاعر لداخل أغوار نصه، حيث يتحاشى الفرسان لقائه، ويحض كل واحد منهم الآخرين بأن يتقدموا لملاقاته، وإلى جوار ردة فعل العدو نلاحظ ردة فعل الزملاء يدعون عنتر ليخفف عنهم الضغط، ليحس معه القارئ وجدانيًا بصليل السيوف وتناثر القسي والرماح، والرؤوس تتدحرج بعد أن تفارق أجسادها.
كما تصادفنا أيضاً تلك العلاقة الحميمة بين الفرس وفارسه، وذلك الحوار والتفاهم بينهما، وشكواه له من وقع النبال على صدره بصورة مدهشة، حتى لم يبق له سوى أن يحدثه بلغة البشر.
في المقابل نلاحظ هذه المرة مدى براعة الشاعر خليل مطران في توظيف الجملة الاسمية الدالة على الثبات في نص (المساء) بما يتوافق هنا مع حالته وهو طريح فراش المرض، في رتابة مملة وأيام وليال متشابهة في التفاصيل حتى وكأنها يوم او ليلة واحدة كلها حمى وسعال والمرض كالموج يعلو ويهبط وهو يصارع المرض:
شَاكٍ إِلَى البَحْرِ اضْطِرَابَ خَوَاطِرِي فَيُجيبُني برِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ
ثَاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمََّ ، وَلَيْتَ لي قَلْبَاً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ !
يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِي وَيَفتُّهَا كَالسُّقْمِ في أَعْضَائي
وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الجَوَانِبِ ضَائِقٌ كَمَدَاً كَصَدْرِي سَاعَةَ الإمْسَاءِ
تَغْشَى البَرِيَّةَ كُدْرَةٌ ، وَكَأَنَّهَا صَعِدَتْ إلَى عَيْنَيَّ مِنْ أَحْشَائي
وهنا نلاحظ التشارك الوجداني بين الشاعر ومجموعة من مفردات الطبيعة الحية يراها بعينه المريضة كئيبة مريضة مكفهرة مثله، ولطالما تغنى الشعراء بالمساء ، وذهبوا في وصفه مذاهب بعيدة ..لكن قلما رأينا شاعرا يرى في المساء هذه النظرية التأملية العميقة، والمكتواة بنار الألم والشجون وفي المساء ، ذلك الحلم الرهيب ، وتلك الصورة التي تمثل نفسه المثقلة بالهموم والمرض ، ولا شك أنه تعمد المقابلة ، إذ اختار لقصيدته عنوان (المساء) لكنه في الحقيقة يقصد نفسه المعذبة.
ما يهمنا هنا هو الكم الكبير من الأسماء (شاك - البحر - اضطراب- خفاق - ضائق - كدرة - السقم …) وهي كلها من أسود وأكأب وأثقل العبارات، للدلالة على كآبته وضيقه وهو مريض.
في المقال القادم إن شاء الله سنتناول المزيد من خصائص الجمل، وسنتحدث حصريا عن أنواع الجمل بين إبتدائية لخالي الذهن وترددية لغير المصدق، وإنكارية للجاحد، وبين الخالية من أدوات التوكيد مثل (الامتحان صعب) والمؤكدة بمؤكد واحد للمتردد مثل (إن الامتحان صعب)، والمؤكدة بعدة مؤكدات مثل (والله إن الامتحان لصعب) ونغوص أيضا في اجواء الجمل الخبرية، والإنشائية مثل (الأمر والاستفهام والنهي …..) فإلى لقاء.