مقال نقدي
الصور والأخيلة في التجربة الأدبية (٣)
بقلم: مصطفى نصر
أصابني ذهول وسيطرت عليّ الأبيات تماماً ذات مرة وأنا أقرأ لدرويش، دخلت إلى داخل المطبعة آلتي أعمل بها، قلت لعل هدير الماكينات يخرجني من هذه الحالة ولكن هيهات!!
في الليل دقوا كل باب
كل باب
كل باب
وتوسلوا ألا نهيل على الدم الغالي التراب
قالت عيونهم التي انطفأت لتشعلنا عتاب
لا تدفنونا بالنشيد وخلدونا بالصمود
إنَّا نسمِّد ليلكم لبراعم الضوء الجديد
خمسة ابيات فجرت في داخلي عشرات الأسئلة:
قلت بلسان من يتحدث الشاعر؟
- يتقمص شخصية الشهداء؟
قلت لماذا في الليل؟
- هي لضرورة سرية العمل الفدائي.
قلت: ماسر تكرار كل باب ثلاث مرات؟ هل هو تكرار ضروري؟ ماذا أفاد الإطناب؟
- قلت هو إطناب مفيد دون شك لأنه تكرار لإفادة العموم، ففي اليوم الذي تصل فيه الثورة لكل باب وتصبح (من بيت لبيت) ستنتصر القضية.
قلت: عبارة (توسلوا) هل هي دقيقة في هذا الموقع، لماذا لم يقل (يأمروا) مثلا؟ لماذا التوسل؟
- قلت هنا هم يخاطبون الشق الإنساني فينا، وهذا الشق الانساني هو شق وجداني، كلمة توسلوا أكثر دغدغة للمشاعر الوجدانية من (أمروا)
قلت: ألا توحي عبارة (توسلوا) بالانكسار؟
الانكسار لمن؟ الانكسار لأبناء الشعب، وهو ليس انكسارا معيبا ولا مذموما، لكن المذموم هو الانكسار للعدو
نهيل التراب على الدم؟ كيف؟ استعارة مكنية وكناية عن نسيان القضية وبين التراب (الرخيص) والدم الذي وصفه بعبارة (الغالي) تضاد يوضح فداحة الخسارة، عندما يغمر الرخيص الغالي في طي النسيان.
قالت عيونهم: استعارة مكنية شبه اختيار الشهداء لبذل أرواحهم في سبيل الوطن برسالة ناطقة تتحدث، انطفأت وتشعلنا تضاد يوضح أن موتهم هو حياة بكرامة لنا، هم ماتوا لنحيا نحن.
العتاب نار بدليل لازم من لوازم النار هو الاشتعال أهم خصائص النار.
كيف يكون العتاب نار؟
كلمات العتاب حارة لأنها صادرة عن وجدان صاحبها، فهي تصيبنا بالحريق وتشعرنا بالخزي والعار ، لأننا لم نقابل تضحيتهم من أجل أن نحيا بكرامة بما تستحقه من الشكر، وشكر الشهيد ليس باللسان ولا بالأناشيد الوطنية بل بالعمل على أن تكون القضية التي ضحى من أجلها حية، وألا تكون دماؤهم ذهبت هدرًا.
أدفنونا - خلدونا تضاد، الدفن إعدام بينما الخلود بقاء، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وذكراهم باقية خالدة.
هل الأناشيد تدفن الشهداء؟
نعم الأناشيد الحماسية تخرج الحزن المكبوت ليتبدد الغضب، خلود الشهداء في أن يبقى الغضب ثائرًا، وبالثورة. والصمود رغم المكاره لاتسقط راية النضال بل تجعلها مرفوعة من الأجيال جيلا بعد جيل لتضحي في سبيل القضية.
وأخطر ما في النص السطر الأخير، لاحظ عبقرية كلمة (نسمِّد) هل هي من السماد؟ نعم دماء الشهداء المتناثرة في الأرض تكون سمادا إذا خرج من الأرض ألف ثائر ليسدوا فراغ رحيل كل ثائر.
من أين أتى محمود بهذه العبارة هل في داخله فلاح؟ نعم هو فلاح وابن فلاح، كان عندما يعود من المدرسة ينزع عنه ملابس الأفندية، ويرتدي ملابس العمل ليساعد الوالد في الأعمال الزراعية، والأرض أغلى من الولد عند الفلاح وفي شعوره هي قطعة غالية، في كلمة (نسمد)استعارة مكنية شبه البلد كلها بالأرض، ليلفت النظر لغلاوتها.
ولماذا إذن لم يقل بلدكم وقال ليلكم؟ لماذا ليل، لها علاقة بالاستعمار الاستيطاني وما يفرضه من إجراءات تعسفية، من أجل سرقة موارد البلاد لمصلحته هو لا مصلحة أصحاب الأرض الأصليين.
(براعم) ذات اختصاص في وصف النبات، بم أوحت عند استخدامها مع (الضوء) يقصد بالبراعم هنا جيل جديد من الفدائيين الفلسطينيين، قاموا باول عملية فدائية بعيلبون، وهي أول عملية عسكرية نفذتها قوات العاصفة التابعة لحركة فتح ضد إسرائيل في ليلة 31 ديسمبر 1964. وتُعد هذه العملية في الأدبيات السياسية الفلسطينية هي انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، لذا عدها الشاعر أول (نقطة ضوء) في (ليل) الاحتلال الصهيوني حالك الظلام.
براعم تعني (الجديد) فلماذا أصرّ الشاعر على استخدام كلمة (الجديد)؟ أصر على كلمة الجديدِ ليدلل على بداية عصر جديد سيقف فيه ضوء عدالة قضية هؤلاء الفدائيين الذين سيشعلون شمعة بدمائهم توكد بان هذه القضية حق وراءه مطالب، وان المحتل لن ينعم بالراحة بعد هذا اليوم لأن صاحب الحق قد بعث من جديد .
وبعد لعل هذه القراءة التحليلية قد كشفت لنا عن مفهوم (الرسم بالكلمات) وهو مصطلح انتبه له النقاد منذ القدم حيث قال البلاغيون العرب: إن أفضل الشّعر ما قلب السمع بصراً، والتفت البلاغيون اللاتينيون إلى هذه الخاصية أيضًا، فحدثونا عن أن الشّعر نوع من الرسم، متابعين في ذلك ما ذكره الجاحظ قبلهم من أن الشّعر نظمٌ وتصويرٌ... وهكذا إلى أن نصل إلى الإمام محمد عبده، الذي تحدث عن فن الشّعر، مقارناً إياه بفن الرسم، فوصف الرسم بأنه شعرٌ صامت، والشّعر بأنه رسمٌ ناطق.
وهي ظاهرة جديدة وجدتها في الشعر الأخير لمحمود درويش، وهي ظاهرة دالة ولافتة للانتباه من حيث إضافتها إلى الثراء النوعي والكيفي لشعر درويش الذي نعرفه، والذي يبدو أنه لاحظ نوعاً من الفراغ في فن الوصف بالقصيدة العربية المعاصرة، فأراد أن يثري هذا الفن، ويعيد إحياءه، ولكن بأسلوب حداثي لا يستطيعه إلا أمثال درويش من عباقرة الشّعر، وهو التعبير عن الموصوفات بالرسم.
فالاستعارة في هذا السياق هي سيدة الموقف، تنتشر كالقطن المنفوش في القصيدة كي تضيئها من كل ناحية، لتكشف لنا هوية هذا الفدائي الذي يراه الشاعر في الليل، على أبواب المنازل، فكانت كل صورة عنده تعادل ألف كلمة.
نواصل إن شاء الله.