٣٧ عاماً على رحيل ابو السيد
رسم الصورة: عبد الرحمن أحمد بركات
٢٧ سنة مرت منذ ان رحل مصطفى سيدأحمد المقبول عن دنيانا في ١٧ يناير ١٩٩٦ في مدينة الدوحة عاصمة دولة قطر ، و مازال يشغل الناس و ينضم المئات من الشباب و غيرهم الى قائمة معجبي مصطفى ( مصطفانا ) كما يطلقون عليه تحبباً ، و امتلاكاً ، بمعنى ( حقنا ) و المختار عندنا ، مؤكد ان هذا الاعجاب الذي تحول الى ما يشبه الولاء في صورة من صور التقديس ، ليس لأنه مغني فخيم الصوت ، و لا لأنه ملحن غني القريحة ، او موسيقي بارع ، فحسب ، فهو الى جانب هذا كله تحول الى رمز ثوري، مثله و مثل عدد من المبدعين الذين ساهموا في رفع الحس الثوري لدى شعوبهم عن طريق الفن و كانوا ملهمين جداً لهم ، منهم بوب مارلي ، الحس الثوري هذا التمسوه من القصائد التي اختارها و غناها ، و معظمها يتراوح بين المباشر و المرمز ، ف تراه ، كما فعل الرائد خليل فرح ، و محمد وردي حيث تُعبِّر ( الحبيبة) عن ( وطن ) على مستوى الحلم و المشتهى ،و تكونت علاقة جدلية بين مصطفى و الشعراء الشباب ، كل منهم أغنى تجربة الآخر ، كان يسعى لهم يلتمس الجديد في القصيدة و المعاني التي ينتخبها باحساس الشاعر ، و مصطفى متعدد المواهب ، احساسه بالشعر قوي و له محاولات ناجحة و تدخل في مرات عديدة لتعديل نص قصيدة ، و كان الشعراء يسعون اليه ، يرومون الانتشار و احتلال موقع في مزاج الناس ، وفر لهم مصطفى ذلك ، فتوفرت له النصوص ، شهدت بأم عينيا دفاتر مسجلة فيها قصائد لشعراء كثر ، و عليها ملاحظاته و تعديلاته ، و سمعت بأذني اتصالاتهم به ، و كما تحول مصطفى الى رمز مقدس لدى الجمهور ، كذلك كان لدى الشعراء ، و معظمهم اصدقاءه و زملائه في معهد الموسيقى و الدراما ، اذكر في احدى زياراتي للخرطوم بعد انقطاع طويل ، استقبلت على شرف مائدة عامرة عدد من اؤلئك الشعراء و المغنيين في دارنا في الديوم الشرقية ، و كنت اسجل في تلك الجلسة العامرة و لما احتجت لشرائط تسجيل ، قمت باستخدام شريط سبق ان سجلت فيه اغنيات لمصطفى ، فطن لذلك احد الشعراء و اعلن استياءه ، فأخرجت شريط أخر من النسخة التي سجلت عليها الجلسة قائلاً، يا استاذ انا عندي سبع نسخ من هذه الاغنيات جلبتها ضمن هدايا للاصدقاء ، و لم يشفع دفاعي هذا ، و ظل الشاعر الصديق متجهماً طيلة الجلسة ، لم تنفرج اساريره الا عند حضور طعام رشيدة طاعمة اليد و المحتوى ، اظن لو اسعفتني الذاكرة كان من ضمن الحضور الاساتذة محمد طه القدال و خطاب حسن احمد ( عليهم رحمة الله و رضوانه )و قاسم ابوزيد و الفنان عمر خليل و اخرين ، ف الذاكرة قد باتت مثقوبة .
مصطفى متعدد المواهب ، غير التي يعرفها الجميع فهو شاعر و رسام و حكاي من الطراز الاول ، بل اظن له كرامات حكى لي صديق مشترك عن واحدة حدثت له ، لكنه لم يسمح لي ان اتحدث عن تفاصيلها و مازلت اسعى ليحررني من هذا الالتزام الذي يقيدني ، اظن ، بل اجزم ، ان مصطفى لو كتب ما حكاه ، لكانت شهرته كروائي قد فاقت صيته كمغني، و نافس ناس غارسيا ماركيز ، و الطيب صالح و حيدر حيدر و نجيب محفوظ .
سوف يمتد مصطفى، كما معظم الذين خلدوا اسمائهم باعمالهم في سجل الرموز الخالدة و المؤثرة على شعوبهم في مختلف المجالات ، ادركت ذلك من مناقشات عديدة يشارك فيها عدد كبير من الشباب ولدوا بعد رحيل مصطفى ، اجيال و اجيال تأتي يعرفون عن مصطفى اكثر مما فعلنا نحن الذين جايلناه و عاصرناه و عشنا معه و رأينا و سمعنا أدق التفاصيل و شهدنا ميلاد بعض الاعمال التي كانت حالته خلال ميلادها كما حالة الطلق التي تسبق الولادة ، يتبدى ذلك في توتره ، و توزعه بين التركيز الشديد و التوهان ، اعرف ذلك من نظرات عينيه ، و من ما يشبه حمى تنتابه ، يكرفس جسده تماماً كوضع الجنين في الرحم و يتغطى ، سوف تنضم اعداد اخرى و تزيد ، اخاف من نظرتهم له كرمز مقدس ، لا يقبلون فيه نقداً او ملاحظة ، و مع ذلك قبلوني معهم و كانت قد وصل الى علمهم ما بيننا من خصام ، رفضت ان استجيب لطلبهم بأن احكي عن ملابساتها ، ليس فقط لأنها تحولت الى ذكرى اتبسم لها خالية من اي احتقان سلبي ، تلاشى هذا كله لحظة بلغني نبأ رحيله ، و مع الايام اصبحت جزء من ذكريات و تاريخ ، و كذلك لأنني مهما سردت و حكيت ح تكون وجهة نظري فقط ، و لن يتمكن هو من الرد و الدحض بالطبع و في هذا عدم عدالة لا يمكن ان ارتكبه.
لسوف يظل ملهم لسنوات عديدة قادمة بعد ان حفر اسمه عميقاً في سجل الخالدين.