مقال نقدي
قراءة نقدية في أسرار صناعة المقال (٤)
القبعات الخمس لكتابة مقال رفيع “٢”
بقلم مصطفى نصر
اقتبست لكم في المقال السابق من كتاب الأستاذ أيمن عبد الرحمن خير المحامي (٥ مهارات لكتابة قانونية رفيعة)طبعة القاهرة ٢٠٢٢م، "١" فكرة القبعات الخمس للكتابة الرفيعة، لكني اقتبست بتصرف، بعيداً عن أجواء الكتابة القانونية وما تقوم عليه من دفوعات ومواد القانون، موجهاً الموضوع نحو الكتابة عموماً وليست المستندات القانونية وحسب.
وكنت قد شرحت وفكرة القبعات الخمس باختصار شديد، وشرحت كيف يتقمص كاتب المقال شخصية المهندس المعماري، ثم كيف يتقمص شخصية “المجنون” التي اخترت له لقب “المبدع” بدلا من “المجنون” ثم في المرحلة الثالثة مرحلة الصياغة كيف يتقمص شخصية “النجار” في أداء حرفته ككاتب مقال.
و يجب على الكاتب أن يجمع في صندوق النجار كل ما يلزم لبناء مقاله شكلاً وموضوعاً، متوخيا جماليات اللغة في بناء شكل جذاب لمقاله، مراعياً قواعد النحو والصرف والإملاء، ومتوخياً الاستخدام السليم لعلامات الترقيم من فاصلة ونقطة وفاصلة منقوطة وعلامات الاستفهام والتعجب وباقي علامات الترقيم،وفي نفس الوقت شيئاً جديدا يقدمه للقاريء بهذا المقال من حيث المضمون الذي لا يجب أن لا يدور في فلك من كتبوا في الموضوع نفسه، وقلت إن في هذه الرحلة يستفيد النجار من معالم الكروكي الذي رسمه له المهندس المعماري كخارطة طريق.”٢”
ننتقل اليوم في هذا المقال للشخصيتين الرابعة والخامسة التي يجب ان يتقمصهما وهما شخصية الناقد وشخصية المخرج، ففي المرحلة الرابعة يجب أن يودع الكاتب شخصية النجار الى شخصية “الناقد” ويمكن تسميتها أيضاً شخصية “القاضي” وبما أن الانسان في حياته اليومية هو الناقد الأول لنفسه، يقف أمام المرآة قبل أن يخرج للشارع مختبرا تناسق هندامه وتصفيف شعره، هو أيضاً أول ناقد لادائه الكتابي يحتفظ به كسر دفين إلى أن يصل به لمرحلة رضائه التام عنه أولاً ليطلع عليه الاخرين، فالناقد أو القاضي داخلك ككاتب مقال هو من يقوم بالحكم على المستند بعد أن يكتبه النجار، بغرض اكتشاف أي عيب أو أخطاء ومن ثم تصحيحها. ويجمع خبراء الكتابة على ضرورة تأجيل عمليات المراجعة حتى الانتهاء من مرحلة الكتابة وعلى الأخص عدم تدخل القاضي في مرحلة التخطيط التي تنفذها شخصية المبدع لأن التدخل بالنقد في تلك المرحلة المبكرة من العمل الإبداعي يؤدي لوأد الأفكار الإبداعية في مهدها وقبل أن ترى النور.
ويجب ان تراعي في هذه المرحلة أن خير الكلام ما قل ودل
هناك تناسب عكسي بين عدد الكلمات ورسوخ المعنى في الذهن، فكلما زاد عدد الكلمات قل تأثيرها، لذلك عليك باستخدام جمل قصيرة يغلب عليها تركيب: فعل ثم فاعل ثم مفعول به، وتخلص بعد ذلك من كل ما لا يؤدي حذفه لاختلال في الفكرة “٣”
كما يجب في هذه المرحلة حذف الكلام المكرر، فالتكرار يجلب الملل وكقاعدة عامة عليك بتفادي استخدام نفس الكلمة مرتين في نفس الجملة، بل في نفس الفقرة ما أمكن ذلك، ولكن في نفس الوقت عليك مراعاة القاعدة المستمدة من قواعد التفسير: وهي أن اختلاف اللفظ يشير الى اختلاف المعنى، لذلك تتسم الكتابة القانونية في الكثير من الحالات بدرجة أكبر من التكرار بسبب أن الحاجة للوضوح تغلب على الحاجة للتنويع، فاذا كان هناك شك بأن استخدام كلمة مرادفة قد يخل بالمعنى المراد فلا بأس من التكرار، ولكن دون مبالغة (٤) :
كما يجب ان تراعي في هذه المرحلة التصوير اللفظي يعني أن تبعث الحركة والحياة في الألفاظ لكي توضح المعنى المراد في شكل صور يتخيلها عقل القارئ بدلا من معاني مجردة جامدة ان العقل البشري يفضل الصور على التجريد ولذلك يرى العديد أن مادة الرياضيات تبدو صعبة الفهم بسبب كونها تدور حول مفاهيم رياضية مجردة لا حياة فيها، ومن وسائل التصوير اللفظي ضرب الأمثال أو التشبيه، بحيث تنقل للقارئ أن المسألة س (وهي معنى مجرد) تشبه ص وهي صورة يعرفها القارئ، لقد استخدم القرآن الكريم التصوير اللفظي وضرب الأمثال لكي يوضح للعرب صورا غير حسية مثل الايمان بالله واليوم الآخر “٥”
كما يجب في هذه المرحلة اختيار وتركيب الفقرات، ونقصد بعبارة "الفقرة" هنا مجموعة الجمل التي تشكل وحدة متسقة نطلق عليها عبارة "فقرة". ويجمع العديد من الخبراء على أن الكتابة القانونية تكتسب قوة ووضوحاً إذا بدأت الفقرة بجملة ابتدائية تطرح فيها دفعاً أو ادعاءً محدداً ليكون ذلك هو مركز الفقرة (جارنر 2013). ثم تكون جميع الجمل التالية في هذه الفقرة تدعم هذا الادعاء أو الدفع من خلال تقديم أمثلة، أو طرح أدلة، أو تقديم شرح إضافي للدفع أو الادعاء، وعليك تجنب إضافة فكرة جديدة في نفس الفقرة، وإنما يجب أن تحتوي الفقرة على فكرة واحدة؛ إذا أردت الاتيان بفكرة جديدة فعليك بقسمة الفقرة الى فقرتين، إن هذا التقسيم المبسط سيسهل على القارئ متابعة أفكارك، ومن ثم تصبح كتابتك أكثر وضوحاً، وإن كان الموضوع الذي تتناوله يشوبه التعقيد لأنك قسمتها لنقاط أصغر يسهل هضمها.
لكي تكتسب الكتابة فعاليتها يجب أن تشكل الفقرات نسيجاً متناسقاً بحيث تقود كل فقرة إلى الفقرة التي تليها بسلاسة وبأناقة، من الأساليب الفعالة أن تكون الجملة الأخيرة في الفقرة تحمل ترابطاً في اللفظ أو المعنى مع الجملة الأولى في الفقرة التي تليها، إن اختيار عبارات من الجملة الأخيرة في الفقرة السابقة ضمن عبارات الجملة الأولى في الفقرة التالية، يعمل مثل الغراء اللاصق الذي يستخدمه النجار للصق أجزاء الطاولة التي يصنعها.
نواصل
“١” أيمن عبد الرحمن خير ٥ مهارات لكتابة قانونية رفيعة (١٨ وما بعدها ط ويلوز هاوس بالقاهرة الطبعة الأولى ٢٠٢٢
“٢” روي بيتر كلارك أدوات الكتابة (٢٤) مطبعة اوفست بدون تاريخ
“٣” هارون عبدالرزاق حسن الصياغة في فنون البلاغة ص “٦٤” مطبعة نور القاهرة ١٩٩٩م
“٤” دكتور فاروق أحمد الهزايمة الأسلوبية نشأتها وتطورها، ص ١٨ طبعة الاردن ٢٠٠١م
“٥” د. شوقي ضيف- البلاغة تطور وتاريخ ص ٦٥ طبعة دار المعارف القاهرة بدون تاريخ