قراءة نقدية في اسرار صياغة مقال رفيع (12)
جدلية الشكل والمضمون (2)
بقلم: مصطفى نصر
قلنا في المقال السابق إن المضمون هو الهدف الأسمى للمقال، بأن يكون مضمونه شاملا ومتفرداً عن كل من تناولوا الموضوع، لكنا أشرنا إلى أن الشكل أيضا مهم جداً، إذ أن الانطباع الأول عن شكل المقال في مرحلة العشر ثواني الأولى من مطالعته، من حيث راحته للنظر ومساحة البياض فيه وتقسيمه بعناوين رئيسية واخرى فرعية، أمور مهمة لأن يواصل القارئ ما كتبته أو ينصرف عنه.
وبعد أن تناولنا شكل المستند سنتحدث في هذا المقال عن موضوعه أو مضمونه، فمن أهم عيوب المقالات الإطالة والتكرار (بدون مسوغ) حيث إن الكلمات الزائدة تبطيء سرعة القارئ، وتمنعه من الوصول للمعني بسرعة، فهي بذلك مثل أحمال زائدة على ظهر القارئ دون أن تضيف له أي فائدة، وتتعدد أسباب التكرار، فقد يكون مردها الخوف من تفويت مسألة أو دفع تهمة، وقد يكون للعادات التي توارثها الكتاب، مثل إحساس كاتب النص بضرورة استخدام عبارات مفخمة ورنانة وتفادي الكلمات البسيطة، ولكن الغالب في الإطالة أنها ترجع لغياب التخطيط أو للتخطيط الخاطئ، مقروناً مع التركيب الخاطئ للجمل، ومن من أهم فوائد عادة التخطيط أنها تعمل على تفادي عيب التكرار، لأنها توضح المكان المناسب للفكرة، ومن ثم تقل احتمالية التكرار، الاستراتيجيات التالية ستساعدك على معالجة هذه المسألة:
(1) خير الكلام ما قل ودل
هناك تناسب عكسي بين عدد الكلمات ورسوخ المعنى في الذهن، فكلما زاد عدد الكلمات قل تأثيرها، لذلك عليك باستخدام جمل قصيرة يغلب عليها تركيب: فعل ثم فاعل ثم مفعول به، مثلا إذا قلت "قام المواطن بسداد الأجرة" فقد استخدمت أربع كلمات، ولكن إذا قلت "الأجرة التي تم سدادها كانت بواسطة المواطن" فقد استخدمت سبع كلمات واضطر القارئ للانتظار حتى الكلمة السابعة لكي يعرف من الذي سدد الأجرة، القارئ لا يحب الانتظار، ومثل هذه الكلمات الزائدة لا تجعله إلى صفك، وان كان هذا الحال في الكتابة غير محبب بشكل عام فإن لكل قاعدة استثناء، حيث قد تكون هناك حالات تستدعي جملا طويلة لتكون أكثر إقناعا، لذا يرى البلاغيون أن هنالك اطناباً يستحسن, يقول الجاحظ(1) وهذا ما ذهب إليه ابن منقذ حينما تحدث عن الاسهاب والاطناب والاختصار والاقتصار ، وقال : «اعلم أنّ كل واحد من هذه الأقسام له موضع يأتي فيه فيحمد ، فان أتى في غيره لم يحمد. فان كان في الترغيب والترهيب والاصلاح بين العشائر والاعذار والانذار الى الأعداء والعساكر وما أشبه ذلك فيستحب فيه التطويل والشرح ، وأما غير ذلك فيجب أن تكون كل كلمة تجلب إضافة للمعنى المراد إيصاله، أو تكشف عن جانب وجداني لدى منشئ النص.
وتمثل الكلمات في بداية الجملة ونهايتها تأثيراً أكبر من الكلمات التي تقع في وسط الجملة، لذلك إذا أردت زيادة التأثير فعليك بوضع المعلومة الأهم في بداية أو نهاية الجملة، كما أن القارئ يتابع الكلام في أول المقال بهمة أكبر وصفاء ذهن، قبل أن يبدأ الملل وعدم التركيز فيما قبيل نهاية المقال، ثم يعود إلى التركيز في الخاتمة، لذا على الكاتب أن يحشد الأفكار المهمة في الفقرتين الاولى والثانية ثم في الخاتمة، ويجعل الأفكار الأقل اهمية في الوسط(٢)
(2) تجنب التكرار
التكرار يجلب الملل وكقاعدة عامة عليك بتفادي استخدام نفس الكلمة مرتين في نفس الجملة، بل في نفس الفقرة ما أمكن ذلك، ولكن في نفس الوقت عليك مراعاة القاعدة المستمدة من قواعد التفسير: وهي أن اختلاف اللفظ يشير الى اختلاف المعنى، لذلك تتسم الكتابة في الكثير من الحالات بدرجة أكبر من التكرار في النصوص القانونية بالذات، بسبب أن الحاجة للوضوح تغلب على الحاجة للتنويع، فاذا كان هناك شك بأن استخدام كلمة مرادفة قد يخل بالمعنى المراد فلا بأس من التكرار، ولكن دون مبالغة.(٣)
(3) استخدم المبني للمعلوم بدلاً من المبني للمجهول
الفعل المبني للمجهول يخفي الفاعل، ومن ثم تضطر لزيادة عدد الكلمات في الجملة، كما أن حيوية الجملة تقل لاختفاء الفاعل الذي يبعث الحركة في الجمل، لذلك عليك بتغليب الفعل المبني للمعلوم واستخدام أفعال قوية تنقل المعنى المراد، لكن في بعض الأحيان قد يكون من المرغوب فيه استخدام الفعل المبني للمجهول، مثلاً في حالة الرغبة في حفظ ماء وجه الطرف الآخر كما في المثال التالي: "وجدت بعض الأخطاء في التقرير السابق" بدلاً من " لقد ارتكبت أخطاء في التقرير السابق". (٤)
للكلام بقية
————-
(١) أبو عمر بن عثمان الجاحظ، البيان والتبيين ص (٣٤) ط دار المعارف بمصر بتحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ١٩٦٢م
(٢) ايمن عبد الرحمن خير خمس مهارات لكتابة قانونية رفيعة ص (٤٤) طبعة ويلوز هاوس القاهرة ٢٠٢١
(٣)السابق ص (٦٦)
(٤) د. محمد يوسف نجم فن المقالة ص ١٤ طبعة دار صادر بيروت ودار الشروق مصر الطبعة الاولى ١٩٦٦م