سفر مفاجئ
بقلم: مصطفى نصر
لم تكن نهلة تتوقع أن يكون منزلهم الهادئ الوديع مكانا لابد من مغادرته، عاشت عقدين من الزمان في ذلك المنزل البسيط في طمأنينة وهناء برفقة أمها نادية وشقيقها الوحيد محمد، ملكة متوجة على عرش هذا المكان، تطلب فتنال ما تريد، منذ أن مات أبوها ذات صباح مشؤوم فوجئت فيه أمهما أن شريك حياتها رجب الكاشف غاب كعادته كل يوم عن أداء صلاة الفجر بمسجد الحارة، فلما تفقدت سريره وجدته جثة هامدة، قد رحل في هدوء، تماماً كحياته الهادئة التي ظل فيها في محرابه في حالة من الصمت والتأمل.
ظل هذا المنزل الصغير أهم بقعة في حياة نهلة ألفتها وتواءمت معها، لكن قاتل الله الحرب اللعينة فقد امتد اوارها وأصبحت حارتهم جزءاً من مسرحها. إذ كانت ليلة الأمس خلافا للأيام الثلاثة الماضية من عمر الحرب، التي كان يأتيهم فيها صوت تبادل النيران من مكان بعيد، أما ليلة الأمس فقد كانت ليلة مشؤومة، اذ ظلت الدانات وقذائف الطائرات تتمشى في حارتهم فتثير الرعب والهلع في قلوب السكان، وتصنع الخراب والدمار، وتحصد أرواح الأبرياء من بسطاء المدينة.
كان مما يدق ناقوس الخطر وينذر بضرورة مغادرة الحارة، أن نالت دانة طائشة في الليلة الماضية من منزل جارهم العتيق عم عبد العزيز كما ظلت تناديه، الذي عاش إلى جوارهم من قبل ان تولد نهلة بأعوام، وحصدت احدى المقذوفات حياة زوجته وطفلين من ابنائه حولتهم الى اشلاء، اضطر لدفنهم بفناء المنزل لصعوبة الخروج بهم الى المقبرة في نهاية الحارة لشدة المعارك.
لم تكن الأسرة تدري إلى أين ستذهب بالقليل من المال الذي تبقى لهم، لولا أن شقيقها قد فحص حسابه المالي في الجوال فوجد لحسن حظه ان راتب الشهر قد نزل في محفظته الالكترونية، قرروا في ساعة حيرة وتفكير أن تكون وجهتهم الى منزل خالتهم الحنونة شقيقة أمهم حاجة فاطمة بمدينة مدني، التي ظلت هادئة تنعم بحياة طبيعية بعيدا عن الحرب التي انحصرت رقعتها في العاصمة فقط لحسن الحظ.
قرروا في تلك اللحظة ان يحملوا ما غلا ثمنه وخفّ وزنه وقليل من الملابس في رحلتهم التي قدروا أنها لن تطول لأكثر من أسبوع أو اسبوعين حسب قادة الجيش الذين صرحوا بأنهم سيحسمونها في اسبوعين على أسوأ تقدير، خرجوا من منزلهم في ساعة توقفت فيها الحرب قليلا وهدأ تساقط الرصاص، فخيم عليهم حزن عميق عندما وجدوا أن حارتهم قد تدمرت تماماً، كما أنهم وجدوا عدداً كبيراً من الجثث من جنود الطرفين المتحاربين لم يستطع آحد اكرامهم بالدفن نتيجة تساقط الرصاص.
فوجئوا أيضاً بأن الشارع ليس به أحد ولا توجد به سيارة واحدة تسير فيه؛ مما يصعب الوصول إلى موقف البصات السفرية الذي يبعد عن هذا المكان بسبعة كيلومترات، اقترحت الأم العودة للمنزل والخروج في وقت آخر، إلا ان أبناءها الذين تهيأت قلوبهم للسفر اصروا على الوصول للشارع الرئيسي، فوجدوا هنالك سيارة اجرة يحاول صاحبها ان يستغل الموقف لتخقيق أكبر مكسب ممكن، يعرض عليهم ثمنا باهظاً ليوصلهم الى حدود تلك الولاية التي يريدون الوصول إليها ولم يجدوا بداً من الاستسلام لجشعه حتى ينجون من الهلاك.
وصلوا بصعوبة كبيرة لحدود الولاية بعد مرورهم بعدد كبير من الارتكازات العسكرية ونقاط التفتيش التي لم يكن لها وجود في الاسبوع الماضي، ووصلوا إلى مأمنهم في حدود تلك الولاية ليجدوا أن الجشع قد أصبح سمة عامة لدى الجميع ووجدوا أن اجرة الحافلات السفرية قد تضاعفت ثلاث مرات؛ حاولوا الاعتراض لكنهم شعروا بآن هذه الأسعار قد أصبحت أمراً واقعاً في بلد لم تعد فيه أي جهة قانونية يمكن اللجوء إليها لإنصافهم، فخضعوا لعقد الإذعان الذي فرضه اصحاب. الحافلات.