قصة قصيرة جدا
دليفري
بقلم مصطفى نصر
أكمل محمد سعد دراسته بالصين في مجال تكنولوجيا الطاقات المتجددة، بتقدير ممتاز، وكان ترتيبه الأول على الدفعة كاملة عرباً وعجماً، وحتى على أبناء الصين نفسها، رغم فارق الامكانيات التي توافرت لهم في مراحل ما قبل الدراسة الجامعية، والتي لو توفر له ربعها في المراحل الدنيا لكان من النوابغ الكبار عالميا.
كانت نفسه تنازعه بأن يذهب فوراً إلى وطنه، رغم عشرات عقود العمل التي قدمت له من شركات ذات أسماء رنانة يعد الانتماء لها ولو بدون مقابل نورا في سيرة حامل السيرة الذاتية، فضلا عن العروض الدولارية التي تحملها والتي يسيل لها اللعاب، إلا أنه كان يقول: بلادي أولى بخبراتي من الغريب، قال له البعض كلنا مثلك تماماً سنعود لخدمة الوطن، لكنا لم نكن سنذهب من هذه البلاد لو وجدنا نصف العروض التي وجدتها أنت.
قال له زملاؤه أبق هنا قليلا لتكتسب بعض الخبرات العملية أكثر لتخدم وطنك بخبرة عملية وليس بمجرد دراسة نظرية من جهة، وأصلح أحوالك المالية من الشقة للسيارة للزواج للمكتب ثم أذهب وأنت افضل حالًا من جهة أخرى، فمثل هذه العروض تسنح في الحياة مرة واحدة فقط، وإذا أضعتها فستبكي دماً، وستعض على بنان الندم يوماً ما.
كان يسمع أحاديثهم المطولة معه حول البقاء من أذن لتخرج بالأذن الأخرى، ضعف في بعض الأحيان، وقويت عزيمته للسفر في أخرى،لكنه قرر أن يفعلها دون علم أحد، وخرج من بيته للمطار دون أن يودع أحدا، ليحط به الطائر الميمون في عقر عاصمة بلاده ليلعب في ملعبه ووسط جمهوره، الذي يكن له كل الحب، ولم يسمعوا بمغادرته إلا بعد عدة أيام وهو يتصل بهم من منزلهم بالوطن العزيز.
قابل هنا عشرات النماذج من بني وطنه، الذين قالوا سنعمل هنا سنتين أو ثلاث سنوات لاكتساب الخبرة، فسرقتهم الليالي والأيام، والنفس التي لا تشبع من جمع الأموال، فتسربت من بين أيديهم السنون، كل عام يقنعون أنفسهم بأن هذا هو العام الأخير فامتدت إقامتهم هنا إلى عشرات السنين، بل إن بعضهم تزوج هناك وكوَّن أسرة وأنجب أبناءً وبنات، فاغلقت في وجهه أبواب العودة إلى وطنه، إلى أن جاءه قدره المحتوم، فدفن هنا غريب الوجه والأرض واللسان، فأصبح يخشى على نفسه من مثل هذا المصير.
جاء محمد إلى بلاده وهو يحمل روحاً معنويةً مشتعلةً كالجمر حماسًا، حمل مؤهلاته ومشاريعه التي أنجزها أيام الجامعة للشركة الوطنية الكبرى المتخصصة في بلاده في مجال دراسته، تخيل أنهم سيعضون عليه بالنواجذ، لأنه الشخص المناسب في المكان المناسب، وسيحددون له وظيفة مناسبة من الغد، نظروا الى شهاداته ومشاريعه بعين الإعجاب، لكنهم اعتذروا له بعدم وجود درجة وظيفية في الوقت الراهن، وأنهم سيتصلون به فور توفر الشواغر.
أدرك المدير خطورة وجود موظف بهذه المؤهلات في هذه المؤسسة، لأن وظيفته ستصبح فورا في خبر كان، خاصة وان سعادة المدير الذي يهوى التزلف للناس (الكبار أوي)، قد ابتسم له الحظ بالوساطات (وشيلني واشيلك) ليرأس هذه المؤسسة المختصة بتقنيات وتكنولوجيا المياه بمؤهل لا علاقة له بهذا الموقع، حيث يحمل مؤهلا تربويا في تدريس التاريخ والجغرافيا، ويحتل موقعًا لا يعرف حتى أبجديته، لولا العلاوات والمكافآت التي يجريها على مستشاريه من أهل الخبرة في هذا المجال.
لذا فقد قرر مدير المؤسسة أنه من المستحيل أن يعطي هذا الكائن وظيفة في هذه المؤسسة، لأن مجرد وجوده في المؤسسة خطر داهم على مستقبله، بل واستقبله بنفسه ووعده أن يكون بانتظار اتصال منهم كتطييب للخاطر فقط، لكنه كان قد قرر سلفًا أن توظيفه أمر مستحيل، ودون أن يهتز له طرف ترجم عددا من مشروعاته العلمية وأرسلها بجرأة للوزير كخطة تطويرية للمؤسسة مدعيا أنها من بنات أفكاره، وأنه توصل إليها بعد دراسات متعمقة.
طرق محمد العديد من الأبواب في مؤسسات مشابهة، وقد تكرر معه نفس هذا المشهد في كل هذه المؤسسات إشادة وإعجاب بمؤهلاته، ثم وعود بالاتصال به قريباً ولكن دون جدوى، لأن أصحاب المعرفة الحقيقيين يتوجس منهم الجميع في هذه البلاد، في بلد يعمل معظم مواطنيها في غير تخصصاتهم لأن الوساطة هي كلمة السر في تقلد الوظائف في الدولة، ويأنف محمد عن ان يبحث له عن وسيط مع ثقته التامة بأن المؤهلات التي يحملها هي خير وسيط يقدمه للجان التوظيف.
ظل يدور ويدور في وطنه بحثا عن عمل تتسرب الأيام من بين يديه يوما بعد يوم إلى أن أكمل حولا كاملًا وهو في انتظار وعد مجهول بمكالمة سوف تأتيه على حين غرة ليصبح بعدها في عداد القوى العاملة في البلاد ولكن هيهات! ماتت حماسته وانزوت آماله في خدمة وطنه، وأصبح لا يطيق فكرة أن يظل يدًا سفلى تتلقى العطايا من الأسرة كل هذه السنين، بعد أن صرفوا عليه أموالا طائلة لدراسته، حتى يكون عونا وسندا لهم في مواجهة متطلبات الحياة، وليس ليظل عالة عليهم يتلقى مصروفه منهم.
فكر جادا في أن يعود للصين مرة اخرى، فهو قد ركل عشرات الوظائف الجيدة هناك وقرر العودة للوطن، لكن مؤهلاته ومشاريعه التي كانت فتحا أسطوريا عند تخرجه لم تعد ذات جدوى، مع تقدم العلم يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، فوجد أن أبواب ما وراء البحار قد انغلقت في وجهه، بعد أن كانت واسعة رحيبة في لحظة ابتسم له فيها الزمان، وجاد له بأفضل الفرص التي لن تتكرر من جديد،
قرر تحت ضغط الحاجة وذل المسغبة ان يبحث عن أي عمل يسد رمقه، توجه لكل المجالات فانسدت في وجهه الفرص، تمنى أن يجد وظيفة في مجال التعليم، لكن كل السبل سدت في وجهه بحجة عدم التخصص المباشر، تمنى أن يجد وظيفة كمترجم صيني عربي لإجادته التامة للغة الصينية، لكنه لم يجد موطيء قدم، سواءً في الشركات الصينية في بلده أو في السفارة.
قادته خطاه نحو ابن عم له يعمل في مجال الدلفري، رغم أنه لطالما كان يرفض فكرة الواسطة، التي لطالما اعتبرها العامل الأول في عدم تقدم البلاد، لكن ابن عمه بشره بأن فرصته ستكون ضعيفة لعدم توافر الفرص لمن لا يملكون وسائل نقل مثل الموتوسكل أو السيارة ربع نقل، سعى للحصول على قرض صغير من أي بنك لشراء موتوسيكل يعمل عليه، لكنه وجد من البنوك ممانعة كبيرة لعدم توفر ممتلكات يرهنها لديهم كضمانة في حالة تعسر سداد القرض.
شعر لوهلة أن وطنه يسد في وجهه كل سبل الحياة الكريمة، وبدأ يساوره الندم على أنه لم يعمل بنصيحة زملائه بالبقاء والعمل في الصين، لكنه موقن بأن الندم لا يفيد، تمنى أكثر من مرة لو أن قلبه الذي لطالما جلب إليه المصاعب يموت، وتطاوعه نفسه للانخراط في الأعمال غير المشروعة التي تظل القطاع الوحيد الذي تتوافر فيه الفرص بكثافة، ليعمل بالتهريب أو تجارة العملة أو الممنوعات.
لكن حبه لوطنه كان يقف مانعًا أمام انخراطه في مثل هذه الأنشطة الطفيلية التي يمكن أن توفر له المال، لكن على حساب اقتصاد بلاده المنهك أصلا بهذه النشاطات الطفيلية الرمادية، وهو في وسط كل هذه الافكار السوداوية، اتصل به ابن عمه ليبلغه بأن الحظ قد ابتسم له، فقد أقنع أحد الزملاء بأن يؤجر له موتوسيكل ليعمل عليه، في مقابل نصف الأرباح التي يحصل عليها، قال لنفسه وهو يسخر منها: تمخض جبل المهندس محمد سعد فولد فأرا هو محمد سعد الدليفري بوي..