قصة قصيرة جدا
زورق الحياة
بقلم: مصطفى نصر
بين أيام هانئة سعيدة وأيام كئيبة تسودها التعاسة يسير زورق الحياة سيره الطبيعي. لا تتوقف خطواته لموت أحدٍ ولا لميلاد أحدٍ. أناس في أفراح وسرور وحبور، وأناس يودعون عزيزًا لديهم في البيت المجاور في نفس اللحظة، وبين أفراح الحياة وأتراحها يمر زورق الحياة لا يعبأ بمن يبكون أو من يطلقون زغاريد الفرح. لحكمة الله في الخلق التي تقوم على ثنائية الموت والحياة.
في ذلك اليوم الحزين يوم رحلت أمي لم أكن أظن أن الحياة ستسير في مجراها الطبيعي، كنت أظن أن دورة الحياة ستتوقف قليلًا، لكن ما غاظني حد الحزن الشديد أن يوم السبت ذلك مثله مثل كل ايام السبت الاخرى قد انقضت ساعاته سريعا بعد أن حملناها إلى قبرها، وقبرت جزءاً من حلو الحياة معها ودفنته بالتراب. كنت أتمنى ألا تتوسد أمي الحجارة وألا توضع الحجارة أعلاها والا يهال عليها التراب.
كنت أشعر أن من يقومون بمراسم الدفن من أهل الخبرة بدفن الموتى يتعسفون مع أمي أكثر من اللازم، إنهم يكتمون أنفاسها بحمولة شاحنة من التراب، وهي رقيقة الحال، حيث أنها شاخت حتى أصبح جسدها لايحتمل كل هذا الضغط، كانوا كأنما هم أصحاب أي مهنة أخرى، يؤدون عملهم برتابة شديدة، كأنما يريدون للمهمة أن تنتهي بسرعة كبيرة، لينتهي دوامهم، كان يغيظني حد الثورة أنهم يطلقون على أمي لقب (الجنازة) حينًا و(الجثمان) حينًا.
كنت أقول لهم إن هذه المرأة التي تطلقون عليها لقب (الجثمان) هي أمي الحاجة رقية بنت الفقيه محمد عبدالله المحسي، الذي درس على يديه جماعة من أهل مدينتي موطأ الإمام مالك، والذي كان يتخذ من مظلة محله التجاري بالسوق الكبير مصلى لكل العاملين بالسوق، يؤمهم من الظهر إلى العشاء، ويقيم لهم درس الموطأ بين مغرب وعشاء كل يوم، لماذا تسمونها (جنازة) وهي كانت امرأة بوزن عشرة من الرجال، في رجاحة عقلها وقوة منطقها.
كنت أتمنى ألا يتعجل المشيعون بالمغادرة وأن يظلوا لأطول فترة ممكنة إلى جوارها. يؤانسونها ويخففون عنها الوحشة عند سؤال الملكين، لكن الجموع تفرقت بسرعة كبيرة، وجلست أنا وأخي الأصغر وحدنا. نقرأ عند رأسها سورة يس، ونلقنها الشهادة، ونذكرها بأن تقول للملكين عند السؤال ربي الله والاسلام ديني وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولي والقرآن كتابي.
كان هنالك شيخ وقور رفض الانصراف وابطأ عن الجموع ليراقب تصرفاتنا. لم ينصرف من مكان وقوفه قيد أنملة. ولم يغادر الا عندما هممنا بالمغادرة بعد أن حل الظلام. سألنا سؤالًا واحدًا هل أنتم أكثر حنوا بأمكم من الله؟ ثم تطوع بالإجابة عندما قابلنا سؤاله بالصمت الرهيب: الله أكثر حنواً وعطفاً بعباده من كل ما فعلتموه، أذهبوا يا أبنائي وأعلموا أنكم قد سلمتموها لأيد أمينة. هي الآن في كنف من لاتضيع ودائعه. غادرنا ونحن أكثر إحساسا بالراحة والطمأنينة بعد حديث الشيخ.
ما كان يملأني غيظًا هو ان زورق الحياة من حولنا ونحن في سيارة أخي متوجهين للمنزل كان يسير سيره الطبيعي كأن امي لم تمت في هذا اليوم الحزين، وشباب في ريعان الشباب يمرون بجوارنا بسيارتهم يفتحون مسجل السيارة بأعلى صوته على أغنية غربية صاخبة، ونساء في أبهى ملابسهن. يتأهبن لدخول صالة أفراح، وبجوار المستشفى التي حملنا جثمان أمي من مشرحتها هنالك من يهنئون زوجا لميلاد طفل حديث، وشعرت بأن الحياة بكل هذا الفرح كأنما تمد لسانها استهزاءً بحزني. وهي تسير في دورتها المعتادة