إضاءة الأحد 24 نوفمبر
التسوي كريت!!
* عندما انقسم انقلابيو الجبهة القومية الاسلامية وخرج التلاميذ وانقلبوا على شيخهم وكبيرهم (1999) وتحولو إلى حزبين - مؤتمر وطنى وآخر شعبي- وللتعبير عن المفارقة التي أنتجها (الانقلاب الجديد على الانقلاب الأصل) في صراع السلطة والثروة،الذي لم يرع للشيخ سبقا أو فضلا ولا إلا ولا ذما، فأودعوه وبعضا من حوارييه الأقربين السجن بكل جرأة وبساطة وسط دهشة الجميع.. لجأ السودانيون إلى ذخيرتهم من الأمثال الشعبية البليغة المتوارثة وأخذوا يرددون ساخرين (التسوي كريت تلقا في جلده)!
* ولفائدة الأجيال الجديدة، ف(كريت) هي العنزة ذات الأذنين القصيرتين.. التي تقف على ظلفيها الخلفيين و تتشابي لتأكل القرض (ثمار شجر الصنت) أكلا لما حتى تشبع.. و عين السوداني وبصيرته اللماحة رصدت أن كريت هذه عندما تذبح ويتم سلخها يتم دبغ جلدها، للإستفادة منه، بذات (القرض) الذي ما فتئت تأكله حتى حان أجلها.. فوثقوا لتلك المفارقة بالقول: (التسوى كريت في القرض تلقاه في جلدها).. فصار المثل رديفا شعبيا لموروث التراث الديني الحقوقي: مثل ما تدين تدان.
* ومرة أخرى يجد (أنصار الترابي) أنفسهم في مواجهة حالة أشبه بحالة ( كريت والقرض) ضمن الاستحقاقات العدلية لثورة ديسمبر المجيدة.. لكن هذه المرة ليس مع تلاميذ الشيخ الذين اتهموه ورهطه بمحاولة الانقلاب عليهم فحبسوه، بل مع الشعب السوداني الذي يرى في جلب إنقلابيي 30 يونيو 89، بمكونيهم المدني والعسكري، للعدالة رادعا لكل محاولة انقلاب جديدة، ولقطع الدورة الخبيثة التي أقعدت البلاد دهورا(انقلاب-انتفاضة-انقلاب).
* قبل وبعد اعتقال أمين الشعبي الدكتور على الحاج أخيرا، بل منذ أن شكل النائب العام المستقل تاج السر الحبر لجنة تحقيق خاصة لتعقب وقائع الانقلاب و أدوار مخططيه ومنفذيه، ساد الاضطراب صفوف (الشعبيين) و (كترت جقلبتهم) ، فلا يكاد أمينهَم الحاج أو مساعدوه أو أي من محاميهم يخرج في مؤتمر صحفي أو لقاء تلفزيوني أو يصرح لجريدة يوميه، إلا و يحدث الناس حديث (الهترشة) كما يقول أهلنا، تصويرا للامنطقية الأقوال وارتباكها.
* يقولون أحيانا و مثلا :كل القوى السياسية مارست أو حاولت الانقلاب ، (إشمعنى نحنا) ، ما هذه إلا (محاولة إقصاء) سياسة.. يقولون هذا وهم من يفترض أنهم المتدينون ويعرفون حكم التنزيل ( و لا تزر وازرة وزر أخرى).. ويتعللون أحيانا أخرى- كذبا- بأن من انقلبوا من قبل لم يحاكموا، اعتمادا على أن الذاكرة الشعبية قد تكون قد مسحت ما جرى في أعقاب انتفاضة أبريل 85 بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما.. خصوصا وهم ذاتهم من بادروا بالعفو عن إنقلابيي مايو و استعانوا ببعضهم كأبي القاسم محمد ابراهيم وعفوا عن قائدهم نميري واستقدموه من منفاه بالقاهرة و دعموه للترشح أمام البشير تجملا.. كل ذلك من قبيل (تقديم السبت) و شرعنة جريمة الانقلاب.
* منهجهم في كل ما يهرفون به هذه الأيام لمحاولة التنصل أو (الزوغان) من وجه العدالة هو ذات المنطق الذي حملهم ابتداءا على إنكار صلتهم بالانقلاب، الذي هم أصله، وحاولوا تتويه الشعب و التمويه عليه، عبر أن يذهب كبيرهم (الي السجن حبيسا و يذهب البشير إلى القصر رئيسا) كما أقر المرحوم الترابي في أعقاب المفاصلة.. وهي اعترافات كثيرة ومفصلة راجت في المواقع الإسفيرية أخيرا بإعادة بث إللقاء الأشهر لأحمد منصور مع ذكريات الترابي على قناة الجزيرة، و الذي أكد خلاله الأخير أن مخططهم للانقلاب كان جاهزا أصلا منذ مطلع (السبعينات) من القرن الماضي وأنهم كانوا يتحينون فقط التوقيت المناسب.. بما يؤكد أن العنف و الانقلاب هما في جوهر الفكرة وليس حدثا طارئا اقتضته بعض الظروف.. و إن كان زعيم الشعبي قد عبر عن ندمه واعتذاره إثر تلك المفاصلة بقولة مشهورة : لو استقبلت من أمرى ما َاستدبرت لما أقدمت على الانقلاب..فقد كان أذكاهم وأكثرهم دربة.. وربما أيضا تبريرا وترويجا لحزبه الجديد الذي أصبح يعزف يوميا على ترنيمة (بسط الحرية).
* سألت الأستاذ معز حضرة المحامي ، أحد الذين تقدموا بالبلاغ ضد مدبري انقلاب يونيو- برقم (5650) - الرأي القانوني في ما يروج له محامو الشعبي وآخرون بأنها قضية خاسرة ستسقط ب(التقادم) لأنها قد مضى عليها عشرون عاما، والقانون الجنائي لعام 1991 قد حدد التقادم بعشرة أعوام ، فيما عدا جرائم القصاص و الحدود..فكان رد الأستاذ حضرة: إنها جريمة (مستمرة)، بمعنى أنها بدأت في 30 يونيو 1989 وانتهت في 11 أبريل 2019 بسقوط قائد الانقلاب الذي ظل يحكم البلاد بواسطة (هذه الجريمة) طوال المدة بين التاريخين.. فالتقادم الذي يتحدثون عنه يبدأ عمليا من يوم 13 أبريل من العام الجاري، أي بعد يوم من سقوط البشير.. وهناك مسألة أخرى لم ينتبه لها المهرجون الشعبيون هي أن (الوثيقة الدستورية) التي تحكم المرحلة الانتقالية قد نصت في بعض بنودها على أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.. تحسبا لما رتبه (ترزية الانقاذ) استباقا لمثل هذا اليوم عندما فصلوا قانون 1991.. وشكرا للأستاذ حضرة الذى نشر أيضا وقائع محاكمة مدبري انقلاب مايو على وسائط التواصل الاجتماعي، لإطلاع الجمهور العريض على حقائق الافتراءات و الأكاذيب التي يروج لها هؤلاء.. فالشعب في انتظار العدالة وإن طال السفر.