إضاءات- طه النعمان - يوميات غردون تحت الحصار ٣

إضاءة الثلاثاء 3 ديسمبر

يوميات غردون تحت الحصار (3)

* إنتهينا في الحلقة الماضية إلى القول ان ما استوقفني حقا في سفر الرسائل الموجهة إلى أخت الجنرال غردون الحبيبة أوغستا الصادر في العام (١٨٨٨) أي بعد ثلاث سنوات على مقتله، رسالتا عزاء ومواساة، أحداهما من الملكة فيكتوريا والأخرى من خديوى مصر توفيق.
* الملكة التي طبع اسمها زمان حكمها وعز الامبراطورية، حتى تعارف الناس عليه بالعصر (الفيكتورى)، كتبت لأوغستا تقول: كيف لي أن أكتب إليك، وكيف لي أن أعبر عما يعتريني من مشاعر ! عندما أفكر في أخيك العزيز والبطل النبيل، الذي خدم وطنه و ملكته بإخلاص وتفان، لدرجة التضحية بالروح من أجل إصلاح العالم، دون أن يجد من ينقذه، وإن ما تلقاه من وعود بالدعم و المساندة لم يتم الوفاء بها- من الحكومة - تلك الوعود التي مارست أنا الضغط باستمرار و ثبات على أصحابها الذين طلبوا منه الذهاب، من أجل تنفيذها، باتت تشكل تشكل مصدر حزن لي يفوق قدرة الكلمات على التعبير!
* هذا المقتطف القصير الذي ترجمناه من كتاب الرسائل لأوغستا، يلخص في الحقيقة كل قصة غردون في قصر الحكم السوداني، مثلما يعطي لمحة مركزة عن كيف كانت تنظر بريطانيا، في أعلى مرجعياتها السيادية، ممثلة بالذات الملكية الفيكتورية إلى غردون، ودوره وخدمات الجليلة وتضحياته في سبيل الإمبراطورية، تلك الخدمات الممتدة في حروبات بطول وعرض أصقاع الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.
* من القرم إلى إلى البلقان في أوروبا.. إلى الصين في أقصى آسيا، حتى لقب هناك بغردون (الصيني).. ثم إلى الشرق الأوسط، مصر وفلسطين.. وإلى الشرق الأفريقي في مصرع و إثيوبيا.. وإلى جنوب القارة عند الكيب تاون.. وإلى أدغال أفريقيا في الإستوائية وبحر الغزال ودارفور السودانية، حيث شن حربا لا هوادة فيها على تجارة الرقيق انتهت إلى الفشل، الذي اعترف به صراحة في بعض رسائله و كتاباته.
* وحيثما كان، لم يتوان الجنرال أبدا في مراسلة أخته الحبيبة أوغستا لاطلاعها على أخباره وأحواله و انجازاته وتطلعه إلى الخلاص من الدنيا وأعبائها إلى حيث الراحة الأبدية.. حتى غدت أوغستا بمثابة مستودع أسراره، و(الصندوق الأسود) الذي سجل كل تفاصيل رحلة حياة طويلة و ذاخرة بالتحديات و المخاطر.. أما الخديوي توفيق فقد عبر هو الآخر لأوغستا عن بالغ حزنه لفقد (شقيقها البطل)، مثمنا وممتنا لكل ما قدمه في خدمة العرش الخديوي وخدمة وطنه و الإنسانية جمعاء، أو كما قال.
* أوخر العام ١٨٧٩ غادر غردون السودان، ولم يكن في خاطره العودة مجددا، لا لمصر و لا السودان - يذكرنا هذا بقول ذاك الشاعر الذي أنشد : لا مصر استقرت على حال.. ولا السودان داما - فقد بلغ السأم والرهق بالرجل مداه، كما عبر عن ذلك مرارا، خصوصا لشخص أعزب مثله.. فالجنرال كما هو معلوم لم يتخذ لنفسه زوجة تشاركه أعباء الحياة وهمومها.. وربما هذا ما جعله من ناحية طليقا وجواب آفاق، دون عيال يثقلون كاهله، وجر عليه من ناحية أخرى أقاويل و اتهامات حول مسلكه الشخصي، لم تثبت صحتها يقينا..ذلك برغم استغراقه الملحوظ و المشهور في الزهد والتدين.
يتبع...