لا
مقال نقدي
بقلم: مصطفى نصر
تحدثنا على مدار مقالين سابقين عن وظيفة النص الأدبي، وقلنا بوجود عنصر أساسي في الأدب عموما هو عنصر الفكر، لكنا أوضحنا أن الجانب الفكري في النص الأدبي يجب أن يكون بسيطا لا مركبا، كماهو الحال في الكتب العلمية والفلسفية القائمة على الحقائق والأرقام والبراهين، بل هي فائدة في أفق الفكر والخبرة بالحياة يتلقاها المتلقي ضمنا دون أن يقف الأديب كالواعظ أو الخطيب في نصهما كما شرحنا سابقا.
فجوهر التجربة الأدبية والشعرية هو فكرة تستوقف الأديب أو الشاعر، فيتتبع وقعها بصورة مميزة بحاسة الأديب السادسة لتوضيح موقعها من وجدانه، ثم يضيف لخلاصة هذه الرؤية الفكرية المرتبطة بوجدانه بعض التوابل لتشكيل النص في وصفة محددة كوصفات كبسولة رمضانية لإعداد الطعام التي كانت تقدم عبر راديو العدد الأول في رمضان من إعداد الزميلة : د . رؤوفة مكرم ومن تقديم الزميلة د. سلوى محمد علي وإخراج المبدع صفوت نيازى، في شكل عدة أكواب من الألفاظ المنتقاة بعناية، مع كوب من الصور الفنبة التي تقرب الموقف للوجدان والعقل؛ مع ملاعق من الموسيقى والوزن والتفعيلات العروضية والقافية برويها المتكرر، وجرس الألفاظ، لينتج من كل هذه الخلطة نصاً أدبيا مؤثراً وكامل الدسم.
بقي لنا الربط بين وظيفة الشعر وشعراء الحوليات من عبيد الشعر، ذلك اللقب الذي ارتبط بطائفة من شعراء الصنعة الفنية المبالغ فيها، لدرجة أن القصيدة الواحدة تستغرق في بوتقة التنقيح والتعديل عامًا كاملا، لنرى إن كانت هذه الصنعة التي تتجاوز قاعدة (الطبع) لها أثر على وظيفة النص وقيمته الفكرية المعنوية، أم لا؟
وعبيد الشعر هو مصطلح نقدي قديم، كان الأصمعي أول من أطلق هذه التسمية على زهير بن أبي سلمى وابنه كعب والحطيئة وأضرابهم، ونسبهم إلى التكلف وثقاف الشعر، إذ قال: «ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلِّف هو الذي قوَّمَ شعره بالثقاف ونقَّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهيرٍ والحطيئة» وكان الأصمعي يقول: «زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقَّحوه، ولم يذهبوا فيه مذاهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقَّح، وكان زهير يسمي كُبرَ قصائده الحوليات …».
وفي العصر الحديث تم اكتشاف بعض مسودات قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي في منزله المسمى (كرمة ابن هانيء) بالقاهرة، وهي كثيرة التعديل والتنقيح يضع كلمة ثم يعدل عنها إلى أخرى ، ثم يعدل عن الثانية بثالثة ثم رابعة، حتى لا تجد في المسودة مساحة بيضاء من كثرة التنقيح والتعديل، مما يدل على أن شوقي كان أيضًا من عبيد الشعر، خلافًا لمسودات حافظ إبراهيم التي لم يجدوا فيها سوى تنقيحات محدودة جدأ، مما يدل على أن شوقي كان من أهل الصناعة اللفظية خلافا لحافظ الذي كان من أهل القريحة والطبع، فهل يؤثر ذلك على صدق التجربة ووظيفتها الأدبية؟
نقول كما أن الإنسان - وخاصة العنصر النسائي- هو الناقد الأول لمظهره، يقف لوقت يتطاول عند الآنسات والسيدات، أمام المرآة ليصلح من هندامه وشعره ومظهره، ولا يتخطى عتبة الدار إلا بعد إحساسه بكامل الرضا، وأحيانًا بعد الرضا يستنفر رأي أحبابه في المنزل للحكم على المظهر العام، زيا وشعرا وميك آب، ومدى تناسق الألوان بين الإسكيرت والبلوزة والحذاء والشنطة، كذلك نجد أن الشاعر هو أيضا يعد الناقد الأول لشعره، لا يبثه على الملأ إلا عندما ينال رضاه هو أولًا، وأحيانًا على رضا بعض المقربين منه من معارفه أهل التذوق للشعر، ثم إذا اطمأن اليه بعد إعادة النظر الكرة تلو الكرة، تشجع إلى نشره للناس، فالتنقيح والتقويم هو سمة من سمات الإنسان منذ القدم،تؤدي إلى أقصى درجات التجويد وليس العكس، ولن تجدي كل هذه الرتوش والتعديلات فتيلا إن لم يكن الأديب يملك الموهبة والملكة الشعرية.
لذا فأنا إبتداءً ليس مع الرأي القائل بأن الصنعة تذهب برونق الشعر وبهائه، فلامجال للقول إن مدرسة عبيد الشعر هي مدرسة الشعراء الذين أصلحوا خلل الموهبة بالعلم أو بقوة الحافز، لأن ملكة هؤلاء الشعرية وموهبتهم لا يتطرق إليها الشك، فأرادوا أن يضيفوا إلى جمال الصنعة إحسانا.
ولا اتفق مع رأي الجاحظ الذي يضعهم في المرتبة الثانية بعد شعراء الطبع الذين لا يعتمدون مبدأ النظر والفحص تلو الفحص بعد إرسال قصائدهم، لكني أفرق هنا بين هذه الصنعة الحميدة التي تبتغي التجويد أكثر وأكثر ، والصنعة لمعدومي الموهبة من أنصاف الموهوبين من الشعراء في العصرين العثماني والمملوكي الذين يتصنعون لإيراد المحسنات البديعية كالجناس والتورية والطباق، فالصورة الجمالية والمحسن البديعي المتكلف غالبا ما يأتي جافا نافرا لا يربطه رابط موضوعي ولا عاطفي مع التجربة الشعرية ومضامينها، فلا تقع في النفس موضع الاستحسان، كالبيت الشعري المنسوب ليزيد بن معاوية والذي أثار الكثير من اللقط والجدل بين النقاد بين استحسان واستهجان لجمعه ست استعارات تصريحية في بيت واحد، وهو:
وأمطرت نرجسا من لؤلؤ وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد
إذ شبه عيونها بالؤلؤ ودموعها بالنرجس وخدها بالورد وأسنانها بالبرد وشفاهها بالعنال كل ذلك في بيت شعري واحد، إذ ذهب فريق من النقاد إلى أنه أفضل بيت غزلي قالته العرب، بينما ذهب فريق آخر - أنا شخصيا قد أوافقهم الرأي - إلى انه مجرد بيت متكلف، لم تأت فيه الصورة الفنية عفو الخاطر، بل أتت بعد تكلف وتصنع، فلو أن كثافة الصور جاءت على شكل رأسي تراكمي لصورة كلية تشكل لوحة بالرسم بالكلمات لكانت الصورة أجمل، وأشد تأثيرا على المتلقي.
أما الصنعة اللفظية لشعراء العصرين والعثماني وما احتوت عليه من زخارف لفظية تزيد في المبنى دون ان تضيف شيئا للمعنى، فالاستكثار من المحسنات البديعيةهو أكثر بشاعة من التنقيح، لأن قدرة الشاعر على حشد المحسنات البديعية ليست دليلًا على تفرده ولا على قوة مقدراته الشعرية على حسب ما شرحنا من قبل في حديثنا السابق حول وظيفة اللفظ (كلمة أو صورة) في السياق الشعري كاملا، وعلى نحو ما سنوضح أكثر في هذا عند حديثنا عن الصورة البيانية والمحسن البديعي في التجربة الأدبية)
بقي أن ننوه إلى أن ملخص كل ما سقناه هنا في هذا المقال هو أن الصنعة اللفظية لعبيد الشعر ليست دليل نقص في الموهبة والطبع، وليس هو تكميلا لنا انتقص من قوة القريحة كما ذهب الجاحظ، وإنما هو تجاوز من مرحلة الإجادة الى مرحلة الإحسان.. وأن الصنعة اللفظية المستهجنة هي التكلف في حشد الصور والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية على حد سواء، لأنه لا مجال في النص لكلمة زائدة هي مجرد حشو لا طائل من ورائه، إذ لا يلفظ الأديب عن قول إلا وله رقيب عتيد من أهل النقد يثمنون موضع هذه الكلمة بميزان الذهب الحساس، ما أضافته للنص من جانب فكري ولا وجداني.