مقال نقدي
الموسيقى في التجربة الشعرية
بقلم: مصطفى نصر
(إن أبي قد جن)، هكذا كان يحدث الشاب أحمد ابن عالم اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي كل من يقابله في الحارة، مصراً على أن أباه قد فقد عقله، بأمارات كلها تؤكد زوال عقله، منها أنه أصبح لأكثر من شهرين يلقي الحجارة في الآبار ثم يلصق أذنه بالأرض ليسمع صوت سقوط الحجر في البئر، ومنها كثرة تردده على سوق الصفارين (الحدادين) حيث يقف هناك بالساعات الطوال وهو يصغي بذهول وغياب تام للوعي، لصوت ارتطام المطارق على الحديد، وأكبر دليل هو ترديده منذ شهرين طوال اليوم كلمات ماهي من كلام البشر المعتاد، إذ يردد عبارات غريبة مثل: (فعولن – مفاعيلن – مستفعلن – فعلن) وما هي إلا من كلام الجن.
والحقيقة هي أن والده الخليل كان في لحظة تاريخية فارقة، يحاول جاهدا الوصول إلى رؤيا جديدة لموسيقى الشعر، لفت نظره إليها صوت المطارق في سوق الحدادين، وهي تصنع إيقاعا ارتبط لديه ببيت شعر لعنترة وهو يقول:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لا تعلمي
فوقف يتساءل ما هي العلاقة بين هذا الطرق وبيت عنترة، إلى أن ساقته الدلائل وكل ساعات الذهول التي دفعت ولده لاتهامه بالجنون، إلى وجود نسق موسيقي يربط قصائد الشعر العربي، وأن هذا النسق لا يخرج من تفعيلات محددة، حيث وجد أن أصوات الكلمات تنشأ عن تتابع فعلين رئيسيين هما الحركة والسكون واللذان يشكلان معاً مقطعين أساسيين عند صدور صوت الكلام، فإذا تبع الحركة سكون سُمى هذا المقطع بـ(السبب)، أما إذا تتابعت حركتان ثم جاء بعدهما سكون عُرف هذا المقطع بـ(الوتد).
جمع الخليل بن أحمد الفراهيدي الأوتاد والأسباب في عدة مجموعات بحسب ترتيب وتبادل الأسباب والأوتاد أطلق عليها اسم التفعيلات، وحدد عشر تفعيلات أساسية وجدها شائعة في أشعار العرب هي فعولن مفاعيلن مستفعلن فاعلن فاعلات مفاعلتن .... ألخ، ووجد أن مجموعة الأوتاد والأسباب هذه تخرج منها ما يسمى بالدائرة العروضية، اكتشف أن فيها خمسة عشر بحرا شعريا، هي الطويل البسيط المديد ... الخ، وهو علم دقيق سمي فيما بعد باسم علم العروض، لا يستطيع أن يلم به إلا من كانت له أذن موسيقية، لدرجة أن الخليل ملَ من تدريس عالم من علماء اللغة كبير اسمه المبرد، وهو لا يرى منه تقدماً، فأراد طرده بصورة مهذبة، فقال له قطع البيت:
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
فبلغته الرسالة المقصودة لشدة ذكائه فغادر حلقة الدرس ولم يعد.
وقد شكلت هذه الطريقة العروضية النسق المبكر للشعر العربي، وهو ما أطلق عليه لقب (عمود الشعر)، الذي يقوم على البيت الشعري المكون من مصراعين يسمى الأول صدر البيت بينما يسمى الثاني عجزه، حيث افترض النقد القديم أن كل بيت في القصيدة يجب أن يكون مستقلا بذاته، فعابوا على الشاعر امتداد المعنى للبيت التالي وعدم اكتماله في نفس البيت، وسموا ذلك (وحدة البيت) وهي أن يستقل كل بيت بمعناه دون الحاجة للبيت الذي يليه لإتمام المعنى، وسموا التجاوز لهذه القاعدة بلقب (التعليق) أي تعلق بعض المعنى بالبيت الذي يليه، وهذا البيت يشكل مع مجموعة أبيات أخرى المقطع والمقطع هذا يجب يقوم على وحدة موضوعية، بأن يتناول موضوعا واحدا، ثم يأتي مقطع آخر ليتناول موضوعا آخر وهكذا، ويجب أن تحتوي القصيدة بحد أدنى على سبعة أبيات.
وتقوم القصيدة في موسيقاها الخارجية الظاهرة على شيئين: هما التفعيلات العروضية الخليلية بنسقها المعروف، بالإضافة إلى نسق إيقاعي خاص سمي (القافية) سنوضحها بعد قليل، فمن ناحية العروض يجب أن تقوم القصيدة كلها على بحر شعري واحد، ولا يجوز المزج بين عدة بحور في النص الواحد، كل بيت يحتوي على تفعيلات بحسب البحر المستخدم أكثرها ثماني تفعيلات في بحر الطويل الذي يقوم على فعولن مفاعيلن أربع مرات في صدر البيت، وأربع مثلهن في عجزه، ومعظم البحور الأخرى هي ست تفعيلات، كالكامل القائم على (فاعلاتن) ست مرات، ويمكن أن يكون الشاعر منشرحاً عاطفيا قادرا على الإطالة، فيستخدم البحر كاملا في قصيدته، أو أن يكون في حالة ضيق وجدانية لا تسمح له بالكلام الكثير، فيسمح له باستخدام البحر مجزوءاً أربع تفعيلات في البيت، أو مشطورا ثلاث تفعيلات (النصف فقط) أو منهوكا على تفعيلتين، وفقا لحالته الشعورية.
ويأتي مع بحور الشعر مصدر إيقاع آخر هو القافية، وهي ضربة منتظمة في آخر كل بيت تزيد من الجرعة الايقاعية الموسيقية للنص، وهي مجموعة حروف في نهاية البيت أهمها هو حرف الروي، الذي تنسب إليه القصيدة فتسمى باسمه: سينية إذا كان رويها هو حرف السين أو رائية أو ميمية أو قافية حسب حرف الروي، فيقال على سبيل المثال ميمية المتنبي:
إذا نظرتَ نيوبَ اللَّيث بارزةً فلا تظنَّنَّ أنَّ الليثَ يَبْتَسِمُ
وسينية البحتري:
صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن جدا كل جبس
كل هذا النسق الموسيقي للبحر والقافية يسمى الموسيقى الظاهرة أو الموسيقى الخارجية، يؤازرها نسق موسيقي آخر يسمى الموسيقى الداخلية الخفية، التي تسري من عدة عوامل أخرى منها استخدام المحسنات البديعية اللفظية كالجناس والسجع والتكرار والتصريع ورد العجز على الصدر، ومنها تقارب الأوزان الصرفية للكلمات والاعتماد على طائفة من الكلمات ذات الجرس الخاص كالسين والصاد، أو حروف الإطباق (قطب جد) أو حروف المد مثل أضواء وأفياء، وأنحاء، فهذه الأشياء أيضا تزيد من الجرعة الموسيقية للنص، وقد اعتمد عليها الشعر الحر أو ما يسمى بشعر التفعيلة تعويضا عن الزخم الموسيقي للبحر والقافية.
هذا باختصار النسق الموسيقي لعمود الشعر التقليدي من لدن العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث، وسنقف في المقال القادم على تجربة موسيقية أخرى هي تجربة شعر الموشح في الأندلس.