الموسيقى في التجربة الشعرية (٣)
بقلم: مصطفى نصر
وعدنا القارئ الكريم أن نحدثه عن تجربة موسيقية أخرى في البناء الموسيقي للنص العربي الشعري، وهي تجربة موسيقى الموشحات في الأندلس.
وسمي الموشح بهذا الاسم لأنه يشبه الوشاح الذي يطرز بخيوط فضية أو ذهبية كزينة له وزخرف.
والموشحات هي شكل من أشكال الشعر ابتكره أهل الأندلس لرغبتهم في التجديد والخروج على نظام القصيدة التقليدية في المغرب، بحيث ينسجم هذا الأدب الجديد مع طبيعة حياتهم الإجتماعية في أوربا في تلك المرحلة.
وتميز هذا النوع من الأدب عن غيره بعدة أمور منها: خصوصية البناء، وتميز اللغة، واختلاف الإيقاع، والارتباط الكبير بالموسيقى والغناء، والالتزام بقواعد معينة؛ كاستخدامه للغة الدارجة أو اللغة الأعجمية، وقد لاقى هذا الأدب اهتماما كبيرا من الملوك والأمراء؛ مما كان له الأثر الأكبر في انتشاره الواسع خصوصا بعهد المرابطين.
فقد احس الإنسان العربي في الأندلس -الذي ارتبط عنده الشعر بالغناء والطرب والمغنيات الحسان؛ فقد كان لكل شاعر مغنيته التي تشدو بشعره- بأنه في حاجة لجرعة موسيقية أكثر صخبا، فاخترع بناء موسيقيا جديدا بقافيتين هي قافية القفل الذي يشبه البيت الشعري التقليدي، ويتكون من شطرتين سماها الأندلسيون (غصنين)، وقافية (الدور) التي هي أقرب لشطر بيت شعري مكون من سمطين أو ثلاثة أسماط في الموشحات الثلاثيات أو أربعة أسماط في الرباعيات، ومنها الخماسيات تلقب هذه الأسماط مجتمعة بلقب الدور أو البيت، وله قافية منفصلة عن قافية القفل مثل النص التالي الذي أحياه المطرب المبدع "مارسيل خليفة" مؤخرا، وهو من شعر ابن زهير الأندلسي، يقول فيه:
أَيها الساقي إِليكَ المُشتكى قد دعوناك وإِن لم تسمعِ
ونديمٍ هِمتُ في غُرّته
وَشَرِبت الراحَ مِن راحَتِه
كلما استيقظ من سَكرتِه
جذبَ الزِقَّ إِليه واِتَّكا وسقاني أَربعا في أَربع
غُصنَ بانٍ مالَ من حيث استوى
بات من يهواهُ من فرطِ النَوى
خافِقُ الأَحشاءِ موهونُ القُوى
كلما فكَّر في البينِ بَكى ما له يبكي لِما لَم يَقَع
ما لعيني عشيت بِالنظرِ
أَنكرت بعدك ضوء القمر
عَشِيَت عَيناي من طول البُكا وبكى بعضي على بعضي معي
لَيس لي صَبرٌ ولا لي جَلَد
يا لقومي عذلوا واجتهدوا
أَنكروا شكواي مما أَجِدُ
مثلُ حالي حَقُّها أَن تَشتكي كَمَد اليأس وَذُلَّ الطَمَعِ
كَبدٌ حَرّى وَدَمعٌ يَكِفُ
يَعرِفُ الذنب ولا يعترِفُ
أَيُّها المُعرِضُ عَمّا أَصِفُ
قَد نَما حُبُّكَ عِندي وَزَكا لا تَقُل إِنّي في حُبِّكَ مُدّع
يتكون هذا الموشح من (قفل) في أوله يشبه بيت الشعر التقليدي ويتكون من شطرتين تسمى كل شطرة (غصن) (من أيها إلى تسمع) ورويه هو القاف، ويسمى كل موشح بدأ بقفل (موشح تام)، أما الذي لم يبدأ بقفل فيسمى (موشح أقرع)، والقفل الأول في الموشح يسمى (مطلع) أو (مذهب). وكما يبدأ الموشح بقفل ينتهي أيضا بقفل ويلقب القفل الأخير بلقب (الخرجة) وهو القفل الأخير (قد نما).
يلي القفل (بيت)أو (دور) والدور يتكون من اسطور يسمى كل سطر (سمط) والدور هنا في هذا النص ثنائي يتكون من سطرين يسمى هذا السطر (سمط) وله قافية غير قافية القفل الأول رويه الهاء، يليه قفل جديد (جذب..إلخ) بروي القاف ثم ياتي دور ثنائي الأسماط بروي الهاء وهكذا إلى نهاية الموشح.
ويلاحظ في هذا النسق اختلافا في القافية فقط حيث أصبحت ثنائية، أما من حيث الوزن فهي نفس بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي (فعولن مفاعيلن فاعلن) لم يتم الفكاك منها في الموشح، وإن مالوا أكثر للبحور القصيرة الطربية واستخدموا البحور المجزوءة والمشطورة والمنهوكة أكثر من التامة.
وقد ظل البناء الموسيقي للموشح تجربة أخرى من تجارب البناء الموسيقي للنص، إلى جوار البناء التقليدي (عمود الشعر) كتراث عربي يمكن أن يستفيد منه الشعراء في كل وقت ومكان.
يلاحظ أن الوزن في الموشح قائم على نفس التفعيلات والدائرة العروضية التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي (فعولن مفاعيلن فاعلن ….. إلخ) لم يزد إليها الأندلسيون شيئا، وإن كانوا قد أضافوا الكثير للموسيقى العربية كمقامات العجم والسيكا والترك وأنصاف وثلاثة أرباع التون، من الموسيقى الأوربية الإسبانية.
في المقال القادم بحول الله وقوته نتناول موسيقى شعر التفعيلة أو الشعر الحرية
تمت المراجعة التنسيق من قبل فريق مجموعة ريمونارف الأدبية