الصورة في التجربة الأدبية
بقلم: مصطفى نصر
التعبير بالصور الكلية في الشعر الحديث
بقلم مصطفى نصر
التعبير بالصور الكلية المركبة هو تركيب مجموعة من الصور في صورة كلية، تحاكي التصوير السينمائي الذي يتناول جوانب متعددة من الصورة وما يضج به المكان في لقطة واحدة، بفتح الزوم إلى أقصاه ليجمع كل شتات المكان بتفصيلاته الصغيرة والكبيرة على حد سواء، مغنيا بذلك عن آلاف الكلمات التي تصف المشهد، يظهر ذلك جليا في إطار شعر التفعيلة في العصر الحديث، ولعل أبلغ صورة كلية توضح ما نحن بصدده هي الصورة الكلية في قول محمود درويش على لسان الشهداء الفدائيين:
قالت عيونهم التي انطفأت لتشعلنا عتاب
لاتدفنونا بالنشيد بل خلدونا بالصمود
إنا نسمِّد ليلكم لبراعم الضوء الجديد
فمن الاستعارة المكنية قالت عيونهم ومن المفارقة في التضاد بين انطفأت وتشغلنا ومن الاستعارة التصريحية في العتاب المشتعل كالنار ومن الاستعارة المكنية في تشبيه أرض فلسطين بحقل زراعي بدليل (نسمد) المستمدة من الشعور الفردي لدى الشاعر باعتباره فلاحا، والشعور الجمعي للشاعر باعتبار حب الأرض للإنسان الفلسطيني التي يرى في أرضه التي يدافع عنها مصدر خير لا ينقطع، والتعبير بالليل عن أيام الوطن تحت الاحتلال، وما تحمله من معاني كثيرة، ثم في مقابلها يفاجئنا بعبارة الضوء ثم البراعم التي تدل على أن الأرض التي رويت بدماء الشهداء ستنبت ألف ثائر وفدائي يحملون الراية عمن قبلهم في مقابل ماقدمه من الارض الطيبة والسماد، فهذه العبارة الصغيرة التي لم تتجاوز ثلاثة أسطر قصيرة، باختصار اشتملت على عدة صور مفردة، لكنها ليست مرادة كصور فردية، بل المراد هنا الصورة الكلية السينمائية لكل هذا النسق الشعري المتصل بتواصل أجيال الكفاح الثائر، فالوحش في ليل الاحتلال الحالك قد يقتل ثائرا، لكن الأرض الولادة تنبت ألف ثاثر وثائرة، من تلك الدماء الطاهرة الذكية التي تسقي الأرض وتستحيل إلى سماد، فالعيون المنطفئة تشعل الحماس في الصدور لضرورة الثأر من المستعمر، وما يستتبعه من ميلاد ضوء في آخر النفق مع هذه البراعم التي تنمو وفي انسجتها دماء الشهداء، لمسنا كل تلك اللوحة الفنية الجامعة للتفاصيل الصغيرة والكبيرة على حد سواء في جو من التناقض اللفظي بين الانطفاء - والاشتعال، ادفنونا- خلدونا، والليل الدامس - وبراعم الضوء الجديد، عندما يكون التنافر والتضاد مجمعا وليس مفرقا.
وننوه إلى أن الشعر القديم لم يعرف في العصور الأولى للشعر العربي هذا النسق من الصور الفردية التي ترسم لوحة كاملة، وكانت كل محاولات استخدام الصورة تنحصر في الصورة المفردة، اذ لم يكن الشاعر في الجاهلية مثلا يرى في الواقع وهو في رحلته في صحراء بلقع لا ترى فيها غير الرمال، صورا ممتدة تشكل نسقا متصلا، لذا تاتي صوره متباعدة تبعا لهذه البيئة الصحراوية التي تتباعد فيها الصور، فلا تجد إلا شجرة هنا تليها شجرة هناك بعد ساعات من السير، وريما شاردا هنا تليه ظبية جميلة بعد ردح من الزمان.
لكن نفس هذا الإنسان العربي ابن البيئة الصحراوية، ما أن خرج من إطار هذه البيئة القاحلة إلى أرض الأندلس، حتى تفتحت أعينه على مظاهر الصورة الممتدة، في البيئة الأوربية الحافلة بالصور، فتفتقت عبقريته عن صور كلية رائعة، مثل ابن خفاجة الهواري من مواليد الاندلس، الذي صور الجبل بصورة جميلة في قصيدته التي يقول مطلعها
وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابَةِ باذِخٍ يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ
يَسُدُّ مَهَبَّ الريحِ عَن كُلِّ وُجهَةٍ وَيَزحَمُ لَيلاً شُهبَهُ بِالمَناكِبِ
وَقورٍ عَلى ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ طِوالَ اللَيالي مُفَكِّرٌ في العَواقِبِ
يَلوثُ عَلَيهِ الغَيمُ سودَ عَمائِمٍ لَها مِن وَميضِ البَرقِ حُمرُ ذوائب
أصخت اليه وهو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب
حيث نلاحظ هنا صورة كلية حاول فيها الشاعر أن يشخص الجبل الطويل الباذخ الذي يجلس مطلا على الصحراء الاسبانية في صورة ر جل حكيم وقور له عمامة وعلى جانبيها ذؤابة حمراء تدل على الحكمة، يجلس في صمت لأنه في ساعات تفكر بالأحداث التي مرت به عبر مئات السنين، وهو جالس في نفس هذا المكان ويمر من حوله مئات آلاف الناس، منهم البر من يلجأ إليه منقطعا للعبادة في خلوة، والفاجر الذي لجأ اليه هاربًا من العدالة، جلس الشاعر إليه مصغيا لحديثه رغم أنه صامت، فحدثه بعجائب كثيرة شهدها وهو في مجلسه هذا وتعلم منها العبر والدروس، في صورة كلية نادرة في أدبنا العربي الأندلسي.
وبعد هذه لمحة مختصرة لمفهوم (الرسم بالكلمات) أو التعبير بالصور الكلية قدمتها للقارىء علها تكشف جانبا من فكرتي العامة حول تخير الألفاظ في الشعر، وهي تكشف بجلاء أن الصورة الفنية في النص ليست حلية لفظية وحسب، بل هي كائن حي يمشي ويتنفس، أما أن تكشف عن جانب فكري في النص، أو حالة شعورية تكشف عن الحالة الوجدانية للشاعر وهو يتعامل مع الحدث، ومعلوم ان الشاعر ليس صحفيًا ينقل الواقع كما حدث بتجرد تام بمعزل عن شعوره الخاص، وبين الشاعر الذي يتناول الحدث من واقع وجدانه وانفعاله به.
وكما ان للصحفي هاتفه الجوال الذي لاغنى عنه للتوثيق للحادثة، للشاعر أيضًا كاميرا خاصة يحملها دوما لتصوير الحدث كما وقع في وجدانه، لكنها صورة يتم التقاطها بالكلمات يوثق بها لحادثته، مستمدة من مخزون تجاربه في الحياة، ومخزونه من القاموس اللغوي الحي كما ذكرنا.