الموسيقى في التجربة الشعرية (٤)
بقلم: مصطفى نصر
كنا قد وعدنا القارئ الكريم في المقال السابق بوقفة مع عنصر الموسيقى في الشعر الحر، فها نحن نفي بوعدنا في هذا المقال.
والشعر الحر برز من حوارات النقاد والأدباء في الوطن العربي حول عدم وصول شعرنا العربي للعالمية. وكان الرأي الغالب هو أن قصيدتنا العربية مكبلة بقيود عمود الشعر العربي الذي ورثناه من القدماء، فقيود البحر والقافية والتقاليد الشعرية للنص القائم على موضوعات متعددة، تبدأ بالوقوف على الأطلال ومقدمة غزلية، ثم الخروج منها إلى وصف الدابة ثم المدح أو الفخر أو الرثاء.
ظن الكثيرون وأولهم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم أنه لابد من الانعتاق عن الشعر العمودي وقواعده لندق على أبواب العالمية، من هنا جاءت كلمة (الحر) التي ارتبطت بالشعر الحديث هذا، والحرية في نظرهم هي ضرورة التحرر من عمود الشعر، الذي حمل كل آثام تخلف الشعر العربي عن ركب الأدب العالمي.
وقد برزت أول قصيدة في هذا الفن مع قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة التي نشرت في العام ١٩٤٧م ثم تلتها قصيدة (هل كان حبا) لبدر شاكر السياب، مع وجود آراء أخرى بأن الأولية كانت لصلاح عبد الصبور إذ أنه كتب قصيدة بهذه الطريقة الجديدة قبل عام من نازك، لكن نازك كانت الأجرأ على النشر فظهرت قصيدتها أولًا، وهناك حديث آخر عن أن الأولية لم تكن لهذا ولا هذه بل كانت للشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن الذي كتب أول قصيدة ١٩٤٠ لكن الديوان لم يخرج من المطبعة إلا في العام ١٩٥٠.
وأيا كانت الأولية لمن، ما يهمنا هو أنه برز للوجود نص شعري حديث هو قصيدة الشعر الحر أو ما يسمى شعر التفعيلة وهو يحمل خصائص جديدة تتمثل في:
أولا: الوحدة الموضوعية للنص؛ حيث خرج الشعراء تماما عن تقاليد القصيدة القديمة التي كانت متعددة الأغراض كما شرحنا قبل قليل، وأصبحت القصيدة تتناول موضوعا واحدا من أول النص حتى آخر كلمة فيه.
ثانيا: الاعتماد على التفعيلة العروضية بدلا عن البحر العروضي؛ حيث استخدموا نفس تفعيلات الخليل تلتزم القصيدة كلها على تفعيلة واحدة فعولن أو مفاعيلن أو مستفعلن، فالشعر الحر فيه موسيقى وليس بدون موسيقى كما يذهب البعض لكنها تقوم على التفعيلة العروضية وليس البحر العروضي.
ثالثا: لم يلتزم الشاعر بعدد محدد من التفعيلات في السطر الشعري، فهو قد يطول أو يقصر حسب الحالة الوجدانية لمنشئ النص، لذا نجد القصيدة سطورها مختلفة من حيث الطول والقصر، خلافا للشعر القديم المقيد باستخدام ثماني تفعيلات مع بحر الطويل وست تفعيلات مع معظم البحور الأخرى، لذا فإن قصيدته متساوية من حيث طول الأبيات.
رابعا: استبدل الشاعر الحر البيت الشعري المقيد بعجز وصدر، بالسطر الشعري الذي قد يطول أو يقصر بحسب الانفعال.
خامسا: استبدل (القافية) بـ(التوافقات) التي تربط عدة سطور أحيانا ثم يعدل منها إلى حرف روي آخر يربط عدة سطور أخرى.
سادسا التدوير: فقد يستخدم نص تفعيلة في آخر السطر الشعري، ثم يكملها في السطر الثاني، متمردا بذلك على الطريقة القديمة.
هذا المقطع من قصيدة (مقتل القمر) لأمل دنقل يوضح الخصائص العامة لموسيقى الشعر الحر بجلاء:
وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل مدينة، (قُتِل القمر!)
شهدوه مصلوبًا تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر!
نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره!
تركوه في الأعواد،
كالأسطورة السوداء في عيني ضرير
ويقول جاري:
(كان قديساً ، لماذا يقتلونه؟)
وتقول جارتنا الصبية:
( كان يعجبه غنائي في المساء،
وكان يهديني قوارير العطور فبأي ذنب يقتلونه؟
هل شاهدوه عند نافذتي _قبيل الفجر _ يصغي للغناء؟!)
وهي قصيدة تتناول ثنائية المدينة والقرية في صورة رمزية رومانسية تعتمد على تقنيات السرد لنقل مشهدية مقتل القمر وهي مشهدية جنائزية تضفي على القصيدة الكثير من الحزن وألم الفقد يمكن أن نتحدث باستفاضة عنها، في مناسبة أخرى، لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على جزء من التحليل وهو البناء الموسيقي للمقطع، حيث نلاحظ اختلاف طول السطور الشعرية، واستخدام ايقاع التفعيلة العروضية (فاعلاتن) التي تتناسب مع حالة الحزن التي تلفه، وخلا المقطع من القافية الموحدة، وفقا لهذه المدرسة الجديدة فنلاحظ التوافق بين (القمر) و(الشجر) والتي لم تستمر كثيرا فجاءت السطور بعدها خالية من أي توافقات، وبث موسيقى داخلية خاصة مع كثافة الجمل الفعلية، واستخدام الجمل الإنشائية القائمة على الاستفهام، والشاعر يعطى في إيقاعات المقطع صورة للحالة الشعورية التى يعبر عنها، ولما كانت تجربة الشاعر أكثر غنى وأعمق، وكانت قدرة الشاعر أكبر، كلما أمكنه أن يقدم نوعا من التوافق بين الحالة الشعورية (أو التجربة) وبين إيقاعاته، وهو مطابق تماما لما نظرته نازك الملائكة حول تعريف الشعر الحر ( هو شعر ذو شطر واحد، ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه، ثم تتابع نازك قائلة: " فأساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة وليس البحر".
تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق مجموعة ريمونارف الأدبية