الموسيقى في التجربة الشعرية (٥)
بقلم: مصطفى نصر
بقي لنا في هذا المقال الأخير حول موسيقى الشعر أن نقف عند (قصيدة النثر) لنتلمس هذا الفن، ونبين الفرق بينه وبين الشعر عموما من جهة، وبينه والشعر الحر من جهة ثانية، وبينه بين النثر الفني من جهة ثالثة، وذلك لأن هنالك لبسًا يلزم فض الاشتباك بين هذه الانواع، وما سر جمع اسمها بين متناقضين هما (الشعر والنثر)؟ وما أهم مباديء هذه المدرسة؟ وهل لها بناء موسيقي معروف؟ ولماذا رفض العقاد قبول بعض نماذجها بين نصوص مسابقة الشعر التي كان يشرف عليها؟ ولماذا حولها لقسم النثر؟
ظهرت حركة قصيدة النثر في عام 1954م، وتزامن ذلك مع صدور المجموعة الشعريّة الأولى من نماذجها، مع صدور ديوان للشاعر الفلسطيني توفيق صايغ تحت مسمّى "ثلاثون قصيدة"، وكان روّاد هذه الحركة هم أربعة عشر شاعراً ومن أبرزهم محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، وتوفيق الصايغ وغيرهم.
ولعل من نماذجه التي احتفى بها شعراء ما بعد الحداثة قصيدة أدونيس (في حب الوطن) التي من مقاطعها:
بلادي.. كنتُ في وعيها وكنت نجواها وأعماقها ، أَبدؤُها ، أعيدُها في دمي وفي فمي براعماً ، أوديةً ، أحجرا ، أنقلها للورى ، رسالةً تُريه ما لا يُرى .
أرض بلادي قصّةٌ لم تزل تقلبُ كفُّ الكون أوراقها ، تحملُها الشمس ، فإن أغْلِقتْ آفاقُها ، تفتحُ آفاقَها ...
خلاّقتي ، فأيّ شيءٍ أنا إن لم أكن بالحبِّ خَلّاقَها.
وأول ما يلاحظ في هذا النص تطابقه مع تعريف القصيدة النثرية كما ورد عند رائد من رواد هذه المدرسة المتحمسين لها، وهو (أنسي الحاج) مشددا على أن النظم ببنائه الموسيقي ليس هو ما يحدد الفرق بين الشعر والنثر، موضحا ان (الشعرية) هي الفيصل، ويقصد بالشعرية عملية التعبير عن الوجدان أيًا كان البناء الموسيقي للنص، فالشعر هو حالة شعورية في المقام الأول، وقد يكون هذا الشعر موزونا مقفى ، ومتمشيا مع القواعد والمعايير المعروفة فى علم العروض ، ولكنه يظل خاليا من الروح ، أو ما يمكن أن نطلق عليه "النفس الشعرى" الذى ينساب بسهولة و يسر ، وينتقل من الشاعر إلى قلوب الناس فيجدون له صدى ، ويحسون معه برعشة .
فهي تماما كما تصف الناقدة الفرنسية سوزان برنار قصيدة النثر «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور... خلق حرّاً، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية»، كما لاحظنا في مقطع ادونيس.
ويذهب أدونيس نفسه وهو يتحدث عن مفهوم القصيدة النثرية إلى أن الوزن ليس مقياسا وافيا أو حاسما للتمييز بين النثر والشعر ، وأن هذا المقياس كامن في طريقة التعبير أو كيفية استخدام اللغة،ن أدونيس يقيس الشعر بمدى إثارته أي بالعالم الذي أراد أن يكشف عنه .
ويلاحظ ايضا من خلال هذا المقطع لادونيس انه يحمل كل سمات هذه المدرسة، والمتمثلة في الآتي:
١/ الابتعاد عن الوزن: لا تلتزم قصيدة النثر بالأوزان التقليدية المعروفة، لذلك لا يعتبر شعراء قصيدة النثر الوزن شرطًا لبناء القصيدة.
٢/ عدم الالتزام بالقافية: تبتعد قصيدة النثر عن القافية الموحدة كما هي العادة في الشعر التقليدي.
٣/ الوحدة الموضوعية والعضوية: إذ تتميز بأنَّها وحدة متماسكة لا وجود لشقوق وفجوات بين أجزائها، والتأثير الذي تحدثه ينتج عنها بشكل كامل لا عن أحد أجزائها كالأبيات أو الألفاظ.
٤/ الحرية: وهذا يعني تحرُّر القصيدة من أنماط التفكير الجاهزة والموروثة والتقليدية، وما يدور حولها من أحكام وقواعد، بل تعتمد على تفكير الشاعر نفسه.
٥/ البساطة: تعتمد قصيدة النثر على البساطة اللغوية في ألفاظها وتراكيبها، وتبتعد عن التكلف والمحسنات البديعية.
٦/ الابتعاد عن الخطاب: تبتعد عن أسلوب الخطاب وعن البهلوانية في البلاغة والصياغة.
٧/ الإيجاز: إذ لا تميل إلى التطويل كما كان سائدًا في القصيدة التقليدية، بل تكتفي بما قلَّ ودلَّ
٨/ التكثيف: وهو طرح أفكار كثيرة بجمل قليلة بعيدًا عن الحشو والإسهاب.
بقي أن نشير الى ثلاثة أسئلة أخيرة
أولهم: كيف جمعت هذه القصيدة بين متناقضين همًا القصيدة والنثر؟
إجابة هذا السؤال أوردها أنسي الحاج، مشيرا أن قصيدة النثر شعرٌ، وليست نثرًا جميلًا، بل هي قصيدة مكتملة وكائنٌ حي مستقل، مادتها النثر وغايتها الشعر، والنثر المادة التكوينية فيها، لذلك ألحق باسمها كلمة النثر لتبيان منشأها، وسمِّيَت قصيدةً للتأكيد على أنَّ النثر يمكن أن يكون شعرًا دون التزامه ببحور الشعر والضوابط التقليدية للقصيدة، وهي باختصار حسب وجهة نظري ورأي بعض النقاد الاخرين عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني؛ ويتسم بافتقاره للبنية الصوتية الكمية ذات التنظيم؛ إلا أنّ له إيقاعاً داخلياً منفرداً بعدم انتظامه ويبرز ذلك بتوزيع علامات الترقيم والبنية الدلالية وفقاً لبنية التضّاد.
ثانيهم: ما الفرق بين القصيدة النثرية والشعر الحر؟
ذهب بعض النقاد الى انهما شيء واحد له اسمان لكني لا أوافقهم ، الرأي لأن هذين الجنسين مختلفين تماماً، ومن أبرز الفوارق بين قصيدة النثر والشعر الحر هي:
١/ اكتفاء قصيدة النثر بمادتها وموضوعها، وأصلها شفوياً أمّا القصيدة الحرّة فقد خُلقت لتُسجن فوق ورقة أي ليس لها وجود إلا كتابياً.
٢/ افتقار قصيدة النثر للتقطيع، أمّا الشعر الحرّ فإنّه يلتزم بالنظم وضرورة وجود توافقات بدلا عن القوافي في أواخر الأبيات الشعريّة، بينما تستمد قصيدة النثر هيئتها من بنية جملها.
ثالثهم: ما رأي العقاد في قصيدة النثر؟ وقبلها الشعر الحر؟
على الرغم من النجاح الذي حققته قصيدة النثر، ظلت الحروب مستعرة بين شعراء الشعر الحر والشعر النثري من جهة، والاستاذ محمود العقاد من جهة أخرى، في ظل تأكيدات العقاد وفصيل كبير منهم أنها لا تنتمي إلى الشعر، بينما يتمسك كاتبوها بأنها نوع أدبي بامتياز ينتمي للشعر بما فيه من شاعرية،
ويرى العقاد آن هؤلاء مفتونون بالعروض الغربي، وهو عروض يعول على الغناء والرقص لافتقاره للوزن، بينما العروض العربي يعتمد على الإيقاع الذاتي في الإنشاد ومستقل عن الغناء والرقص، والسبب أن العربية لغة اشتقاق يعد الوزن فيها أساسا، وكل كلمة موزونة صرفيا، بينما اللغة الأوربية لغة نحت، والكلمة فيها غير موزونة إطلاقا، مما يستدعي التوسل في الشعر بعناصر خارجية كالنبر والرقص والغناء
فن العروض العربي أتقن فن على الإطلاق
وايا كان رأي العقاد أو غيره أؤكد في الختام أن الشعر النثري سيظل تجربة لها أنصارها المدافعين عنها، لكنها تبقى في النهاية محاولة في موسيقى الشعر بهجرها تماما تضاف للتجارب السابقة كالمرشح والشعر الحر، وهي تثري التجربة لدى الشعراء الشباب لاختيار مايرونه مناسبا.