مقال نقدي
قراءة نقدية في عناصر فن القصة (٨)
بناء الشخصية القصصية
بقلم: مصطفى نصر
يعد بناء الشخصيات في القصة من الأمور الصعبة التي تستلزم جهداً فنياً كبيراً وخبرة عميقة بأساليب الفن القصصي، لا سيما إن كان الأمر متعلقا بالقصة القصيرة، وهذا يعود في الأساس إلى عدة أسبابا منها: قصر شكلها، ومحدودية زمنها، وبيئتها.
والتعرف على ملامح الشخصية من خلال القصة القصيرة أصعب من التعرف عليها من خلال الرواية؛ لأن الفضاء الروائي يسمح للشخصية بأن تكشف عن نفسها بوضوح في جميع نواحي الشكل والمظهر والهندام والخصائص النفسية والاجتماعية، ويستطيع الراوي أن يتابع تطورها ويدخل في أعماقها وخفايا نفسها ويكشف عن مواطن ضعفها وقوتها بصورة كبيرة.
أما في القصة القصيرة المحدودة المساحة، فإن الصعوبة تتضاعف، إذ يجب على منشئ القصة القصيرة أن يراعي التركيز، بمحدودية الشخصيات، بحيث أنها لاتزيد من(3 - 5)شخصيات على أكثر تقدير، بتوظيف هذه الشخصيات المحدودة بصورة مكثفة لكشف الجوانب الفكرية والوجدانية للنص، وفي تطوير الحبكة القصصية حتى وصولها لحد (الذروة) مع تصاعد وتيرة الحوار بين هذه الشخصيات.
ومع حركة الشخصيات في النص تتكشف الدوافع والمبررات التي تدفع الأشخاص القصصية لهذا السلوك، ومع مراعاة التركيز وعدم الإسهاب يقدم القاص قراءة تحليلية لبعض نماذج الشخصيات فقط كالبطل، وشخصية رئيسية أخرى سلبية، تعمق الصراع بين الحق والباطل، أو بين العقل والقلب، أو بين الواجب والعاطفة، ويقدم باقي الشخصيات بصورة مسطحة، فالشخصيات التي يختارها القاص يجب أن تكون مميزة في لغتها وموضوعاتها ومضامينها، ولذلك لابد من تقصي أنماط بناء الشخصية عند كتاب القصة القصيرة وطرق بنائها، كون الشخصية من العناصر الفاعلة في القصة، وبواقعية هذه الشخصيات وعدم مخالفتهم لناموس الكون في تجاوز سلوك الشخص العادي الطبيعي، تتسلسل الأحداث تبعا لذلك بصورة منطقية يقبلها عقل المتلقي.
فلا مجال في القصة لشخصيات سوبرمانية خارقة للعادة، حيث من المفترض أن تكون الشخصيات يمكن وجود مثلها في الواقع، بعيدا عن مبالغات السينما الهندية (البوليودبة) التي تصور لك أبطالا أسطوريين، بحيث يستطيع الشخص الواحد هزيمة العشرات، أو يستطيع الطيران في الجو، مخالفاً لقوانين الجاذبية الأرضية، فالكاتب نجيب محفوظ في ثلاثية (السكرية - قصر الشوق- وما بين القصرين) يقدم لنا شخصية (البلطجي) الذي يفرض سطوته على الحارة كلها، بأدوات منطقية، بوجود العشرات من رجاله ومعاونيه، دون أن يكون شخصية سوبرمانية يهزم وحده العشرات.
ففي مسلسل رأفت الهجان من قصة صالح مرسي شخصيات استخباراتية معقدة، سوى أنها مستمدة من شخصيات طبيعية لا مبالغة في سلوكها أو خوارق، فرأفت الهجان هو شخصية حقيقية اسمه رأفت الجمال، ومحسن ممتاز هو شخص استخباراتي طبيعي هو الضابط عبد المحسن فائق، وهكذا كل الشخصيات رغم التعقيدات التي تكتنف أدوارها إلا أنها شخصيات واقعية جدا لا تشتت ذهن القارئين عن الحدث والحبكة القصصية.
وقد كشفت الفنانة المصرية تهاني راشد التي جسدت دور سيرينا أهاروني، أنها عاشرت اليهود لمدة 3 سنوات من (8 -11)سنة، وأوضحت:
"كنت في المدرسة ليّا صديقة وكانت يهودية، وكنت باخد درس فرنساوي عند والدتها، فعاشرتهم في البيت واتكلمت زي ما بيتكلموا بالضبط، وكان طبيعي إني لازم ألقط منهم حاجات استعنت بها في الدور، لذا جاءت الشخصيات ذات سمات طبيعية لا مبالغة فيها".
ولعل من أعقد الشخصيات التي صورتها الدراما المصرية في تاريخها الطويل، هي شخصية الخواجة عبد القادر التي شخصها الأستاذ يحيى الفخراني، للمهندس النمساوي الأصل، المصري الجنسية، السوداني الروح والقبر والهوية، "جوليوس فاجوجون" الذي اعتنق الإسلام وسمي فيما بعد "الخواجة عبدالقادر" وقد استطاع الفخراني أن يعبر بسلاسة متناهية عن شخصية البطل بالغة التعقيد والتركيب، بأبعادها المزدوجة الروحية والإنسانية والاجتماعية والأخلاقية، في عمل درامي فريد، يصنف في خانة الواقعية السحرية، قدم صورة تختلف للإسلام عن أنماط التطبيق الشائهة، والمناقضة لجوهره، ولروح التدين فيه.
تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق مجموعة ريمونارف الأدبية.