مقال نقدي
قراءة نقدية في عناصر فن القصة (١٠)
عنصر المفاجأة في القصص القرآني
بقلم: مصطفى نصر
عنصر المفاجأة في القصص القرآنية عالم شديد الثراء، إذ يجعل الله تعالى للقصة خبايا وأسرار لم تكشف، تسير في خفاء عن القاريء، فتفاجئه بنهاية غير متوقعة للحدث، ودونك في ذلك ما تحدثنا عنه باستفاضة عند تناولنا لقصة أصحاب الجنة، (سورة القلم ي ١٧ ومابعدها) هؤلاء الشباب الذين أرادوا في أول عام لوفاة أبيهم، أن يكسروا ما اعتاده أبوهم الراحل من سخاء في إخراج حق المحصول يوم حصاده، بإيفاء الفقراء حقهم وزيادة في ذلك اليوم، مما كان يعظم ويبارك في محصول جنته، فتأتي أكلها أضعافاً كثيرة.
فقال ابناؤه في اجتماع مغلق عقدوه بليل: إن أولادنا كثر وهم أولى بفائض المحصول الذي كان يوزعه أبونا على الفقراء، فلا يدخلنها علينا اليوم ساعة الحصاد مسكين، فأسروا فيما بينهم سناريو حرمان الفقراء مما كان ابوهم يعطيهم في سخاء تجارة مع الله، بالحصاد في الليل وجمع المحصول وتشوينه قبل أن يصحو أحد من الفقراء.
لكن لأن العبد يريد، ويفعل الله ما يريد نفاجأ بسيناريو آخر مفاجئ لم يخطر لنا على بال، يخبئه المولى عز وجل في خفاء، لنفاجأ بـ(حاصب) من السماء- جاء هكذا نكرة، ليترك لعقولنا تخيل كنهه وحقيقته- نزل بليل على المحصول فأحاله إلى رماد، نتيجة بخلهم على الفقراء.. وفوجئنا بسيناريو آخر طابعه الحسرة والندامة، بعد ان تلقى الشباب هذه الصفعة المؤلمة لتعيدهم إلى صوابهم، فيستغفرون الله من سلوكهم الأناني، ويعودون إلى جادة صواب العقل.
نفس هذا (الحاصب) الذي أصاب خطة البخل التي وضعها الشباب في مقتل، وجدناه يتكرر بحذافيره، في موقف آخر هو موقف الصلف والغطرسة من صاحب الجنة الذي أكرمه الله بحديقة يفصل بين جانبيها نهر في (سورة الكهف ي ٣٢ ومابعدها) حين قال لصاحبه في ساعة (نفخةكدابة) "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا" ثم يجرؤ على الجزم بأن مزرعته هذه "لن تبيد هذه أبداً" ثم تطورت الغطرسة إلى درجة أعلى هي إنكار البعث "وما أظن الساعة قائمة" فما كان نتيجة هذا الطغيان إلا أن أنزل الله على جنته (حسبانا) من السماء، فأحرق محصولها، فأصبح يعض بنان الندم على فعلته، فلم يجد له أولياء ينصرونه من دون الله، فكان الخسران المبين.
وفي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح (الكهف ٦٠ وما بعدها) الذي جاء في بعض الروايات أنه نبي الله الخضر - صاحب العلم اللدني- يتجلى منطق الصراع والحبكة القصصية القائم على التقاطع بين منطق أهل العقل ومنطق أهل الباطن، إذ فوجئ موسى الذي يمثل العقل من الرجل الصالح فعلا بشعاً يتنافى مع الصلاح، فهو قد خرق السفينة وقتل الطفل البريء وأقام الحائط مجانا في قرية أهلها بخلاء رفضوا ان يضيفوهما ولو بجرعة ماء، فأصابه الأمر بالذهول، ولم يستطع ان يصبر عليه.
ورويداً رويداً نصل إلى الحل، حيث يتجلى لنا أن كل هذه الأمور لم يفعلها الخضر من نفسه، وإنما هي توجيهات إلهية له، مصرفا للخطاب بين (أردتُ) حينا، و(أردنا) حينا، و(أراد ربك) مرة ثالثة بصورة جعلتنا في ربكة تامة: تارة مع عمل فردي، وأخرى لاندري إن كان عمل جماعي أو هو من لغة الواحد المعظم نفسه، وثالثة تدل على أنها أمر إلهي خالص.
وهنا تتجلى لنا رمزية هذه الأفعال إذ أن المنطق السليم يأبى أن يقتنع بأن خرق السفينة وإفسادها وإغراقها حلاً لحمايتها من الحاكم الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصباً، فإرادة الله القادر على صرف نظر الحاكم عن السفينة أيسر من خرقها.. وهداية الطفل إلى الخير أيسر من قتله، وحماية مال الأيتام أبناء الرجل الصالح بطريقة أخرى كان أيسر من إقامة جدار، فيتجلى لنا بوضوح رمزية هذه الأفعال.
فنقرأ في مستوى الدلالة الرمزية دلالات مغايرة، حيث احتمالية أن يكون المراد بخرق السفينة هنا هو دعوة لتجاوز ما هو عقلي لتصديق ما وراء العقل والطبيعة، وأن قتل الغلام هو دعوة لقتل النفس الأمارة بالسوء وحب الذات، وأن إقامة الحائط هي دعوة لتحصين المنح العقلية والمعرفية الإلهية من الناس حتى لا تتعرض للزوال بالحسد، والله تعالى أجل وأعلم
سنواصل