ومضة
مصطفى نصر
أيام في الأزهر
* بعد أيام قليلة من وصولي للخرطوم.. كنت في طريقي إلى مطار الخرطوم مغادراً إلى مصر .. تحديداً في يوم 24 سبتمبر 1981 وصلت إلى المطار .. وتجاوزت خطوات عديدة بدأت بكاونتر شركة الطيران وصولاً إلى السير حيث سلمت شنطتي ثم الجوازات حيث وضعت تأشيرة المغادرة على جوازي الخاص بالسفر لمصر فقط ..المسمى ببطاقة وادي النيل.. ثم التفتيش الدقيق عند الدخول لصالة المغادرة .. أظنهم كانوا يبحثون عن الدولارات .. وأنا لا أملك منها شيئاً .. نصحني بعض الناس أن أشتري بما معي شيئاً من علب الشاي زهرة الشمس.. والأمواس.. وحبوب الجون وأندروس الفوار للحموضة .. قالوا لي إن هذه الأشياء تدر أرباحاً جيدة هناك .. ولا سيما إن اشتريت نصف كيلو من الفضة خبأته تماما في طيات الشنطة الداخلية.. لكنني لم أجازف بذلك لأنها المرة الأولى لي في السفر:: فأريدها من غير مجازفات.
* لم يكن معي سوى القليل من الجنيهات المصرية للتاكسي من المطار لفندق أبو الهول الذي وصفوه لي في العتبة .. وأنني هناك سأبيع بضاعتي واتسلم المال .. وأن علي الحذر من المصريين الذين يجيدون الخداع..هكذا كانت الذاكرة الشعبية تصور المصريين كلهم بهذا التعميم المخل- إلى أن وصلنا إلى هناك فوجدنا أن المصريين أمم أمثالنا فيهم الصالح والطالح .. وما كثرة الطالح إلا لكثرة أعدادهم إذ كانوا حينها 80 مليوناَ ينمون بسرعة كبيرة لأن اللافتات التي كانت في الشوارع تحذر من انفجار سكاني .. لأنهم كانوا يستقبلون طفلا كل 4 دقائق.. عندما خرجت من الصالة فوجئت بالطائرات وهي جاثمة بأرض المطار.. لم أكن أتخيل أن الطائرة بهذا الحجم الكبير .. كنت غالبا ما أرى الطائرات تحلق جيئة وذهابا في أجواء كوستي صغيرة الحجم .. لأنها تمر بنا في بعد سحيق.. شعرت برهبة كبيرة من هذه الكائنات.. لكني كتمت دهشتي في داخلي حتى لا يراني الناس بهذه الدهشة كقروي في المدينة.. صعدت إلى الطائرة البلغارية الضخمة من خلال سلم طويل..فاستقبلتني مضيفة بلغارية حسناء أجلستني إلى جوار النافذة.. ووضعت شنطة السمسونايت التي أحملها في رف أعلى ثم أحكمت إغلاقه.. وجدت نفسي وسط جمع من المسافرين بلغاريين ومصريين كانوا على متن الطائرة أصلا.. ولم ننضم إليهم من مطار الخرطوم إلا عشرة أشخاص فقط..وما هي إلا لحظات حتى جاءت مضيفة بلغارية شقراء تحدثنا بلغة عربية ركيكة كانت الحركات المصاحبة لها بلغة الصم أوضح منها .. نصحتنا بربط حزام الأمان .. ثم حدثتنا عن مخارج الأمان التي نعتمد عليها إذا وقعت حادثة وشرحت لنا كيف نستخدم المطرقة في كسر الزجاج .. ووصفت لنا الجلسة الصحيحة عندما تبدأ الطائرة بالسقوط.. وارتداء أكياس الهواء .. زادتني هذه المقدمة غير المتفائلة هلعا على هلعي.. وتمنيت لو أنني لم أفكر في السفر.. رأيت أنني يجب أن أوقف هذا الهلع بقراءة ما تيسر مما أحفظ من القرآن.. بعد قليل طافت بنا بلغاريات حسناوات شقراوات كثر يضاهي جمالهن بطلة السينما آنذاك صوفيا لورين .. ليتأكدن من ربطنا الأحزمة بطريقة صحيحة.. خفف جمالهن من هلعي .. فقد فهمت الآن تماما مقصد الفنان مصطفى سيد أحمد عندما يقول: (يا بنية من خبز الفنادق).. بدأت الطائرة في التحرك رويدا رويدا بصورة خفيفة ثم مالبثت أن هاجت وماجت واضطربت .. وعملت محركاتها الأربع في آن معاً بأصوات مزعجة تشبه الزمجرة .. لولا أنني كنت أرى من نافذة الطائرة أنها لم ترتفع بعد لظننت أنها لحظة السقوط التي حذرت منها المضيفة قبل قليل..وماهي إلا دقائق قليلة حتى استوت منتصبة في السماء وخف الصوت المدوي الذي كان ساعة الإقلاع..
* ماهي إلا ثلاث ساعات من وقت تحركنا في الواحدة صباحا إلا وكنت خارج مطار القاهرة ومعي حقيبتي قد عادت لي سالمة.. أبحث عن سيارة أجرة تأخذني لفندق (أبو الهول) في ميدان (العتبة الخضراء).. وبعد نصف ساعة وجدت نفسي في غرفة مفردة بائسة، ودخلت في سبات عميق حتى أيقظني آذان الظهر.
* فور استفاقتي وأخذ حمام سريع كنت متشوقا لمغادرة غرفتي إلى الصالة الأمامية للفندق .. اكتشفت أن أغلب سكان الفندق سودانيون ..وجدت عددا من المصريين يبحثون عن البضاعة التي أحملها.. بعت الشاي والأمواس وغيرها بسعر مجز بأرباح فاقت ال 100%.. بدأت أبحث بين السودانيين عمن يدلني على كيفية الوصول إلى مكتب الأستاذ أحمد السيد حمد .. دلني أحد الأخوة أخيرا.. على أن للختمية دارا بحي الحسين القريب من موقع فندقنا .. جوار الجامع الأزهر.. ومرقد السيد الحسين بن علي كرم الله وجهه..و أن بإمكاني أن أتحصل هناك على معلومة عنه.. ذهبت إلى حي الحسين راجلا بعد أن تناولت غداء سريعا..ووصلت بسهولة كبيرة للدار التي تحظى بشهرة لابأس بها .. حيث أن للختمية فرعا في مصر له جمهوره الكبير في أوساط المصريين.. وجدت شخصا يعمل في استقبال هذا المبنى الذي هو أقرب إلى الفندق .. إنه نصف سوداني بشكله الأقرب للسودانيين.. ونصف مصري بلهجته المصرية بدون لكنة سودانية.. كان جاهزا لإجابة سؤالي بصورة فورية .. أعطاني ورقة فيها العنوان وأرقام تلفونات المكتب..طلب مني أن آخذ موعدا مسبقا قبل الذهاب.. من فوري بحثت عن محل للاتصالات.. اتصلت بالرقم .. طلب مني المتحدث من الطرف الآخر - وكانت لهجته سودانية خالصة- الانتظار حتى يحدد لي موعدا لمقابلة ألرجل .. ضرب لي موعدا بعد ثلاثة أيامى من اليوم الذي كنا فيه.. بعد صلاة المغرب..أردت أن أخبره بطبيعة طلبي.. لأقوده لسؤال آخر حول مدى فرص نجاحي في الحصول على منحة.. قال لي أنا أعرف أصلا ما غرض الطلاب من هذه الزيارة.. حاولت أن أخرج منه بتطمين حول طلبي هل يمكن أن أوفق فيه أم لا .. لكنه اختصر الموضوع بأن حدود مهمته هي أن يحدد لي الموعد فقط..
* لم يكن لدي شيء لأنجزه.. فقط سأنتظر الموعد .. جلست إلى قهوة بجوار مسجد الحسين.. ﻷحتسي أول كوب شاي لي في مصر .. وأنا في الحقيقة كنت أنتظر وقت صلاة العصر .. لأوديه في جامع سيدنا الحسين .. وأن ازور ضريح حفيد سيدنا النبي .. أردت في هذا المقام الطاهر أن أتوجه بطلبي لله تعالى بأن يكتب لي التوفيق.. بشهادة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* بعد الصلاة توجهت للفندق..بدأت في مشاهدة القناة المصرية الثانية.. من خلال تلفاز أثري.. بعد مشاهدة لفيلم أجنبي وجدته في منتصفه .. خرجت لأطل على المدينة من بلكونة الغرفة .. رأيت لافتة مكتوب عليها بخط جميل المسرح القومي.. وبين قوسين (مسرح جورج أبيض) تطل من خلال واجهة المسرح لوحة كبيرة كإعلان للمسرحية التي تعرض في المسرح في ذلك اليوم والأيام التالية.. هي مسرحية (فتش عن المرأة) لكاتب عالمي كبير هو (بودلير) بطولة محمود يس وسناء جميل مع مجموعة من الأسماء المغمورة.. فكرت أن تكون سهرتي الليلة مع هذه المسرجية .. لكني كنت أخشى أنتكون قيمة التذكرة باهظة..فكرت في أن أذهب إلى هناك قبل الموعد في التاسعة لاكتشف السعر بنفسي..فوجئت بأن فئة الدخول 10 قروش فقط.. فكانت أول ليلة لي ساهرة في ليالي القاهرة
يتبع