ومضة
مصطفى نصر
أيام في الأزهر
* في الموعد المحدد كنت في غرفة الاستقبال الأنيقة لمكتب الأستاذ أحمد السيد حمد بمصر الجديدة .. استقبلني بحفاوة بالغة .. بجلبابه الأبيض وعمامته.. الصورة التي رأيته عليها تدل على بساطة الشخصية دون تكلف .. وتخالف الصور المتجهمة التي أراها له بالصحف كسياسي مرموق.. تقالدنا أولاً.. ثم تصافحنا باليدين.. بدأ يحييني بالتحيات السودانية ذات العبارات الموجزة المتتالية.. ورغم إقامته لعقود متتالية بمصر .. لم تتمصر لغته .. ولم تتغير لكنته السودانية الكاملة الدسم.. وبكلمات موجزة وواضحة شرحت له مبتغاي.. وسلمته في نفس الوقت خطاب السيد أحمد عبد القيوم .. بشرني بأنه لن يحدث إلا الخير.. سوى أنه أوضح لي بأنه الآن قد تجاوز الحق القانوني المتاح له من عدد المنح .. إلا أن محاولاته لزيادتها بعلاقاته الخاصة لن تتوقف.. وجهني بأن أعرج على مدير مكتبه وأعبيء استمارة ببياناتي الكاملة..صافحته مودعاً وحمّلني تحياته للسيد أحمد عبد القيوم.. تمنيت لو أني أستطيع أن أعود إلى كوستي للتو واللحظة ﻷبلغ تحياته.. وجدت نفسي في قائمة انتظار ثلاثينية ما يعني أن 29 فرداً أمامي .. أحسست عندها بأن انتظاري سيطول بعض الشيء.. قررت أن أغادر الفندق وأتوجه لأماكن تجمع السودانيين علني أجد بعض الطلاب ونبحث معاً عن سكن مشترك .. دلني بعض المقيمين بفندق أبي الهول على دار اتحاد الطلاب السودانيين بمصر .. قالوا لي إنه بمنشية البكري جوار ضريح الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. وزودوني بخارطة طريق مفصلة إلى منشية البكري.. بعد صلاة المغرب كنت بالمترو المتوجه إلى هناك .. وجدت تجمعاً صغيراً للطلاب.. وبدأت الأعداد تزداد كلما تقدم الليل .. في بورت الإعلانات وجدت إعلاناً لغرفة واحدة للسكن الطلابي بباب اللوق .. ضاحية قاهرية بوسط البلد .. في جزء منفصل مع مدام أرملة وابنها طالب الثانوي يحتلان الجزء الأكبر من المنزل.. وأنا في غرفة منفصلة مع حمام منفصل .. والمطبخ فقط هو الذي يجمعنا .. تحركت مباشرة بمعونة بعض الطلاب وشرحهم لطريقة الوصول .. إلى موقع الشقة.. وجدت أن المبلغ المطلوب يناسبني تماماً.. استأجرت الغرفة ودفعت أجرة شهر مقدم على طريقة المصريين.. مع تأمين أجرة شهر آخر سترد في حالة عدم وجود تلفيات في الغرفة عند مغادرتي لها.. وسلموني مفتاح المدخل المنفصل المؤدي لغرفتي المفروشة بلون أزرق مع جدران مطلية بالسمني .. وأرضية من الخشب الموسكي تقي من تسلل الرطوبة للغرفة.. قالت لي المدام كوثر صاحبة المنزل مسموح لك بأن تشرك شخصاً واحداً فقط معك في هذه الغرفة ليقتسم معك الأجرة، لأني أحس أن المبلغ كبير عليك كطالب.. ووجهتني بأن أعود في اليوم التالي لاستلام الغرفة لتقوم بنظافتها
* كانت غرفتي كبيرة وواسعة وقد أعطاها اللون الأصفر الفاتح على الحوائط إحساسا إضافيا بالاتساع..تحتوي على أثاث عتيق إلا أنه متين.. مع سريرين ودولابين في داخل الحائط وثلاجة صغيرة 3 قدم وتلفاز فوق الثلاجة موضوع على رف مثبت بعناية .. وبجوارها حمام منفصل .. كان لهذا المنزل ميزة كبيرة فوق هذا كله .. إذ أصبح بالنسبة لي كهوية .. وعبر عنواني الحالي 66 شارع عبد الخالق ثروت شقة 3، ستصل عبره الرسائل لي من الأهل في كوستي.. إذ كان ساعي البريد يصل إلى العنوان ويضع الرسائل في صندوق بريد أسفل العمارة يحمل الرقم 3.. إلا في حالة البريد المسجل الذي كان يمثل شريان الحياة بالنسبة لي .. ﻷنه كان يحمل شيكاً مصرفياً يسحب على شركة الراجحي للصرافة .. بمكتبهم الكائن بالزمالك .. إذ كان ساعي البريد يحرص على تسليمه لي يداً بيد.. لأوقع له على السيرك بالاستلام.. وأمنحه عطية خاصة فقدرها بريزة (عشرة قروش) كبقشيش..وكنت أسعد عندما أرى سعادته بالمبلغ ودعواته لي.
* إذن لم تبق لي سوى مشكلة واحدة في هذ المسكن الجديد سوى المطبخ المشترك مع أصحاب المنزل.. فكرت في أن أعقد مع صاحبة الملك اتفاقاً بأن أوكل لها مسألة الطعام.. وأن تحدد لي مبلغاً محدداً لوجبة غداء فقط تعدها هي، وسأتدبر نفسي في الإفطار والعشاء.. سارت الخطة بنجاح وحددت لي مبلغ 5 جنيهات شهريا لوجبة الغداء .. ولحسن حظي كانت بارعة في مسألة الطبخ.. فإنتهت بذلك مسألة المطبخ المشترك .. وﻷحسم مسألة الاحتياج للمطبخ نهائياً اشتريت براداً كهربائياً أصنع فيه الماء الساخن ..ووفرت احتياجاتي من الشاي والسكر واللبن والبن مع أكوابي الخاصة.. وظللت من هذه الغرفة التي تقع في موقع استراتيجي بباب اللوق أقضي نهاري .. وأبدأ جولاتي فيما بعد صلاة العصر بساعة، أبدأ بجولة في وسط البلد.. ومن ثم إلى دار الاتحاد الذي لا يعمر إلا بعد صلاة المغرب .. مع مراجعة أسبوعية لمكتب السيد أحمد السيد حمد لاستفسر عن مصيري .. فأجد كل أسبوع أن قائمة الانتظار التي احتل فيها الرقم 30 قد اختير منها طالبان أوثلاثة.. وعلى مدى شهرين أصبح ترتيبي هو 16 لكن وقتها قد أصبحت الفرصة تضيق شيئاً فشيئاً، لأن الدراسة بدأت بالفعل.. وقد كان لوجودي اليومي في دار الاتحاد فائدة عظيمة إذ وجدت يوما إعلاناً بالبورت عن كتاب باسم (الرسالة البشيرية في التقديم للمعاهد الأزهرية)، كاتبه هو رئيس الاتحاد في ذلك الزمن أحمد البشير، من الدويم، كان يدرس في هندسة الأزهر، وقدم مشروع تخرجه في تخطيط المدن، وأخذ مدينة كوستي كنموذج لتخطيط المدن المثالي، حيث لم تحتو المدينة كلها على زقاق واحد ولا شوارع ملتوية، فعلمت من خلال كتاب الرسالة البشيرية أن لدي فرصة أخرى للدراسة عبر منح الأزهر الشريف.. أعادت الطمأنينة لي.
كنت قد سمعت بأن السيد أحمد الميرغني لديه منح دراسية وأنه قد عاد من المملكة إلى فيلته في الإسكندرية .. نويت أن أشد الرحال إليه بعد أن أكد لي مقر الختمية بحي الحسين صحة جزء مما راج.. وهو أنه قد عاد لقصره بالاسكندرية.. لكنهم كدأبهم دائما لا يؤكدون ولا يينفون وجود منح أو عدمه .. ذهبنا إلى الاسكندرية .. ووجدنا أن قصره مما يسهل الوصول إليه لشهرة الرجل في الإسكندرية التي تضاهي شهرته في حلة حمد.. وجدت جموعا من أصحاب الحاجات أمام الفيلا ليس كلهم طلاب منح دراسية .. إذ أن أكثرهم من المصريين المريديين جاءوا زائرين ليباركوا عودته.. ويتبركوا بالسلام عليه.. ومنهم من جاء في طلب منحة علاج مخفضة .. أو منح ومساعدات مالية ..
* أحد المكلفين منه استقبل الطلاب وجمع منا صور من الشهادات مع تعبئة طلب المنحة .. قدمنا الأوراق وقال ان النتائج بعد أسبوع وأنه سيحمل قائمة لمن تم قبولهم لدار الاتحاد بالقاهرة ولاداعي لحضورنا .. بعد أسبوعين جاءت القائمة تحمل 30 شخصا كلهم قد قبلوا في كليات ومعاهد للقسم العلمي .. لم نجد أسماءنا ضمن اللستة .. وكانت جهودنا بالفعل قد بدأت بالتقديم للمعاهد الأزهرية .. في هذه الفترة قابلت بالصدفة بدار الاتحاد جارنا وأخونا في الحي الفاتح كمال الريح قادما في نفس اليوم للدراسة.. ضممته معي في السكن في باب اللوق.. وذهبنا للفندق وأخذنا شنطته.. وبعد أسبوع تم قبولي في المعاهد الأزهرية .. ولأنني كتبت في طلبي بأنني (مالكي) - ولم أكن أتوقع قطعا أن هذه الكلمة سيكون لها أثر في تحديد مستقبلي - تم قبولي بمعهد سموحة الديني بالإسكندرية .. ﻷنه المعهد الوحيد المالكي في وجه بحري... حيث كان معه معهدان فقط آخران في وجه قبلي (صعيد مصر) .. في مناطق نائية يصعب إرسال الطلاب الوافدين لها.. وقد قبل معي في نفس المعهد الصديق الفاتح حسيب.. الذي كتب في استمارته بحكم عادة السودانيين أنه مالكي.. لكنه كان من الضروري أن ينضم ﻷخيه حسن حسيب الذي كان يدرس الطب بالزقازيق.. وقد كان المعهد الديني بالزقازيق - لسوء حظه- شافعيا .. لذا طلب منه أن يغير مذهبه للشافعي .. وطلب منه أن يشتري استمارة تغيير مذهب .. ويذهب إلى لجنة الفتوى بالأزهر التي تنبثق منها لجنة تسمى لجنة تغيير المذهب.. وأن عليه أن يمثل أمام لجنة من العلماء الأجلاء ليقنعهم بسبب تغيير مذهبه .. فقد كان من المفترض أن يحدثهم بسبب فقهي وجيه للعدول من المالكية للشافعية .. وطبعا ليس سببا وجيها أن يحدثهم برغبته في الإقامة مع أخيه في الزقازيق.. رغم أنه لوكان قد كتب أنه شافعي في استمارة القبول من أول وهلة لما احتاج لكل ذلك..
* بعد أسبوع رحلت إلى معهد الإسكندرية الديني.. وتركت صديقي الفاتح حسيب يلهث في مكاتب لجنة الفتوى طالبا اللجوء للمذهب الشافعي .. وحزنت جدا لأني سأترك غرفتي التي ألفتها وألفتني في باب اللوق .. تاركا الفاتح كمال وحده في الشقة .. وذهبت إلى حياة جديدة في الإسكندرية ..
يتبع