قراءة نقدية في عناصر فن القصة (١١)
المكان في القصة
بقلم: مصطفى نصر
الزمكان تركيب مزجي للزمان والمكان، وكل واحد منهما عنصر مستقل بذاته، سوى أن النقاد قد صنعوا رابطا دائما بين العنصرين، حيث يردا في الدراسات الناقدة معاً كتوأمين سياميين يصعب فصلهما.
فاذا بدأنا بعنصر المكان نجد أن المكان في القصة يعد مسرحًا للأحداث، وقد يُشار إليه في القصة إشارة سريعة خاطفة وقد تكون غامضة، فيقال مثلا كنّا في القطار، وقد يرد المكان في القصة مشاركًا في الحدث القصصي، خاصة إذا كان المكان هو البطل المعاكس للبطل الرئيس في القصة، ويرسم المكان في القصة على هيئة عالم مصغّر تدور فيه الأحداث كما ظهر في قصة (تحت المظلة) لنجيب محفوظ، حيث إن الأحداث كلها دارت تحت مظلة يحتمي بها الناس من المطر، لم يجرؤ أحد على مغادرتها نتيجة للمطر المنهمر بغزارة.
وقد يكون المكان برزخا بين موت الإنسان وصولاً لسكونه الأبدي في عالم النور والضياء، كما هو الحال في سيرة المنتهى لواسيني لعرج يربط برزحه فيما بعد الوفاة مع قوى فاعلة في السيرة والتاريخ العربي في الاندلس، وجده الأول الروخو، وبطله الذي شكل ذهنه كاتب كتاب دينكاشوط الذي ظل زمانا يحارب طواحين الهواء، فضلا عن تشبثه بالقوي الجامد بالحياة من خلال شرفة الجدة "حنا فاطنة" التي تطل على حدائق تصوف الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، ليتحول فيما بعد إلى حفنة من نور تضيء. بالموازاة، واستطاع الكاتب أن يعرّج إلى السماوات، في لحظة صفاء وطهارة برفقة جده الأول الروخو، استشرافاً للمكان الطاهر، مبعث النور و الضياء، كما اتيح له في هذا البرزخ لقاء حبه الأول في ريعان الصبا. مينا.
وفي رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني، يستطيع القارئ أن يميز بين ثلاثة أنواع من الأمكنة هي المكان الذهني الخارجي، قبل الوصول للمدينة، كصورة موجودة في وجدان البطل لنحو من عشرين سنة وهو في منفاه، ثم يأتي المكان الواقعي بعد وصوله لحيفا بصورة مخالفة لحيفا التصور الذهني، ثم المكان الحلم التي شغل ذهن سعيد فيما بعد وهو ينادي بضرورة الحفاظ على الهوية والتأريخ.
ومن المؤكد أن هذه المكونات الذهنية الثلاث للمكان هي التي طورت الحدث القصصي وسارت به في دروب مختلفة، إبتداءً من المكان الذهني الذي كان يقوم على أساس الوطن مقابل المنفى، ثم الوطن الواقعي الذي اكتشف أنه لايستقيم بعودة فردية، إذ أن العمارة ذات الشقة الواحدة لا تصلح لأن تكون وطناً إلا بعودة جماعية لكل سكان العمارة،
وفي المكان المتخيل تتجلى حتمية عودة العدالة ببنية قانونية لا تكيل بمكيالين ومن هنا تنبني فلسفة الحفاظ على الهوية التي شغلت الحيز المكاني الأخير في النص.
فالمكان القصصي إذًا هو بنية وجدانية حية ولفهم فلسفة بناء المكان في القصة لابد ان نستعرض كتابا هامًا في تاريخ النقد الأدبي العربي وهو كتاب (بناء فضاء المكان في القصة العربية) لمؤلفه الناقد محمد السيد إبراهيم، وفي هذا الكتاب يقدم المؤلف دراسة مستفيضة لعنصر المكان ودوره في بنية القصة العربية القصيرة. والكتاب يقع في سبعة فصول أو مباحث في الفصل الأول يقدم المؤلف مداخل نظرية لفهم فضاء المكان، كما يبحث في خصوصية القصة العربية أما في الفصل الثاني فيبحث المؤلف في بناء (فضاء القرية) إذ تبدو القرية مكاناً أساسياً في العالم العربي، إذ ظلت لدى الكتاب العرب نقيضاً للمدينة. وقد اختار الكاتب مجموعة منحنى النهر للكاتب المصري محمد البساطي للحديث عن فضاء القرية، إذ إنها بنظره قدمت فضاء القرية برهافة شاعرية نافذة.
ويخصص المؤلف الفصل الثالث للحديث عن بناء (فضاء المدينة)، فقد ظلت المدينة متسربة داخل عالم (القصة القصيرة) حتى وهي تصور فضاء القرية، وفي الفصل الرابع يتطرق المؤلف إلى بناء (فضاء المدينة الغربية) إذ يبدو واضحاً أن فضاء المدينة الغربية كان حاضراً في معظم الأعمال القصصية العربية ويقدم المؤلف قراءة في أعمال الطيب صالح الذي بت أعماله معبرة بقوة عما هذا الاتجاه.
أما في الفصل الخامس فإنه البحث يدور حول بناء (فضاء الصحراء) باعتبار الصحراء تعد أكثر الفضاءات أهميته وتقع في مقدمة الفضاءات المكانية التي اهتم بها كتاب القصة القصيرة والروائيون. ويعرج المؤلف في الفصل السادس على فضاء (المكان الحلم) باعتبار الأدب هو رغبة محمومة في تجاوز "الواقع" واستشراف آفاق تخلو من تناقضاته. أما في الفصل السابع فيتطرق المؤلف إلى منظور "السرد" أو وضعية "الراوي" ويحاول من خلال ذلك أن يحدد من يقف بالضبط وراء "البناء" هل هو الكاتب الحقيقي أو هو راو يبدعه الكاتب وينفصل عنه أو بمنحه درجة عالية من الاستقلالية شأن أي عنصر فني آخر.
ولنا عودة إن شاء الله